للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فهذه هي خلاصة الاختلاف والآراء المختلفة في أصل التصوف ومأخذه , ننقاشها في هذا الباب , وندعم رأينا الذي نراه من بين هذه الآراء المتعددة , بالأدلة والشواهد , الخارجية منها والداخلية , فنقول: إن أفضل طريق للحكم على طائفة معينة وفئة خاصة من الناس هو الحكم المبني على آرائه وأفكاره التي نقلوها في كتبهم المتعمدة والرسائل الموثوق بها لديهم بذكر النصوص والعبارات التي يبني عليها الحكم , ويؤسس عليها الرأي ولا يعتمد على أقوال الآخرين ونقول الناقلين , اللهم إلا للاستشهاد على صحة استنباط الحكم وإستنتاج النتيجة.

وهذه الطريقة ولو أنها طريقة وعرة شائكة , صعبة مستعصبة , وقل من يختارها ويسلكها , ولكنها هي الطريقة الصحيحة المستقيمة التي يقتضيها العدل والإنصاف.

وعلى ذلك عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر , وأقاويلهم المنقولة منهم , والمأثورة في كتب الصوفية , القديمة والحديثة نفسها , نرى بونا شاسعا بينهما وبين تعاليم القرآن والسنة , وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون , بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية , والبرهمة الهندوكية , وتنسك اليهودية , وزهد البوذية , والفكر الشعوبي الإيراني المجوسي عند الأوائل , والغنوصية اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاءوا من بعدهم , وتدل على ذلك تعريفات القوم للتصوف , التي نقلناها عن كبارهم فيما سبق (١).

وكما تنطق وتشهد تعاليمهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف , والضوابط لمن يدخل في طريقتهم.

فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم , وهو من الطبقة الأولى وأئمة التصوف الأوائل , وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه , ولا يخلوا كتاب من كتب التصوف وسيرته.

ومما يذكر بيانا لشأنه الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ , وتزوج من امرأته جميلة , وله ولد , ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد , وكل من كان يملكه , للنداء الغيبي , أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك , مثل ما ترك بوذا ملكه وزوجته , وأبنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق , وحذو القذة بالقذة , خلافا لتعاليم


(١) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>