للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

على أنفسنا. لأن عصر هذا الفتح لم يكن إلا وجهاً واحداً من وجوه تاريخ عصبة النبي ورجاله. ولم يقف أمر العرب عند فتح أقطار الدنيا وغزو ممالكها. بل لقد أسسوا مدينة جديدة لا دخل فيها للعوامل المتقدم ذكرها. فلا بد أن يكون لها نمت دواع وأسباب.

هناك سببان قاطعان جازمان. يؤول إليها أصل هذه المدينة الجديدة. أولهما الوسط الجديد الذي وجد فيه العرب. وثانيهما استعدات فرائحهم وإفهامهم.

فأما الوسط فقد ذكرناه لك آنفاً وصفناه. وقلنا ما كاد العرب يخرجون من مهامه جزيرتهم وينسلون من فدافد أرضهم. حتى ألفوا أنفسهم إزاء بدائع المدينة اليونانية الرومانية. وما كان أغربها لعيونهم وأشدها أخذاً بمجامع أفئدتهم فلما تبينوا تفوقها الذهني. كما تبينوا من قبل تفوقها الحربي. جاهدوا في مضاهاتها. ودأبوا في مساواتها ومجاراتها.

ولكن مجاراة مدينة مستبقة متفوقة ينبغي لها بادئ بدئ روح قابلة خصبة. إذ حسبك بياناً لصعوبة هذا العمل تلك المجهودات المضيعة الخائبة التي حشدها البرابرة زهاء قرون وأجيال لانتحال آثار المدينة اللاتينية والانتفاع بها. وما كان العرب بحمد الله أمة بربرية. وما كانوا قوماً همجيين. ونحن وإن كنا لم نعلم ما كان من مدينتهم في العصر الذي تقدم عصر محمد، حين إذ كانت بينهم وبين سائر الأمم رابطة المتاجرة. فقد أثبتنا لك إنهم كانوا يوم ظهر النبي فيهم على رقى في الأدب بالغ. ومعلوم أن العالم أو الأديب إذا جهل كثيراً من الأشياء أعانته استعداداته الذهنية على استظهارها ووعيها. وكذلك استعان العرب على فهم العالم الجديد في أعينهم. الطريف لأنظارهم. بنفس الحمية التي جاؤوا بها إلى فتحه. وعين الأريحية التي أقبلوا بها لغزوه.

ولم يأت العرب في بحث هذه المدينة التي ألفوا أنفسهم بغتة إزاءها. بشيء من مؤثرات الخرافات التي انقضت ظهور البيزنطيين دهراً طويلاً وأثقلت كواهلهم أمداً مديداً. ولذلك كانت حرية أرواحهم. وخلوصها من قيود الخرافة. وأسار الأوهام سبباً من أسباب ارتقائهم السريع. وكثيراً ما يحدث في حياة الشعوب إن تأثير الماضي قد يفيد الأمة دهراً. ويؤتيها من لدنه خيراً. ثم لا يعدو بعد ذلك أن يستبد بها. ويجعلها تنزل على حكم الخرافات الماضية. ويحول بينها وبين كل تقدم ورقي.

وإن الاستقلال الطبيعي الذي نشأت عليه أرواح العرب. وتصورهم وابتكارهم. لتتجلى في