للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تمييزي بين أحول النفس الثلاث: الفتور والألم واللذة. فإني أبصر كل واحدة منها بأنها من الأخريين منفصلة عنهما ليس لها بهما أدنى صلة أو علاقة. هب أن أمراً أصيب بمغص فلا شك أنه يكون في ألم. فإذا طرحته على آلة التعذيب أحس ولا ريب ألماً أشد، فهل ترى ألم التعذيب كان منشؤه زوال لذة؟ وهل نوبة المغص تعد لذة أو ألماً حسبما نشاء أن نعدها؟.

الفصل الثالث

فرق ما بين زوال الألم واللذة الإيجابية

إن الأمر في الألم واللذة ليس مقصوراً على أن وجود أحدهما غير متوقف على زوال الآخر كله أو بعضه. بل أن زوال اللذة كلها أو بعضها لا يشبه الألم الإيجابي، وإن زوال الألم كله أو بعضه قليل الشبه (من حيث تأثيره) باللذة الإيجابية. ولعل الشطر الأول من هذه القضية أقرب أن يسلم به الناس من شطرها الآخر إذ أن من الواضح أن اللذة إذا جرت بنا شوطها تركتنا حيث كنا قبل مباشرتها أعني في حالة سكينة ممزوجة بأثر حميد مما كنا فيه من تلك اللذة. واعلم أن المرء لا يستطيع أن يدرك لأول نظرة أن زوال الألم الشديد لا يشبه اللذة الإيجابية. فليذكر المرء في أي حالة يجد نفسه عقب الإفلات من خطر شديد أو الخلاص من سورة ألم حادة فإنه إن فعل ذلك تذكر أنه يجد نفسه بحال جد مخالفة لما يعتري النفس من شهود اللذة الإيجابية. إذ أنه يجد نفسه بحالة انتباه ويقظة مشفوعة بشيء من الخوف - بحالة سكينة يعلوها الروع.

فإن هيئة الوجه حينذاك وحركة الجسد تنم عن ذلك، فلو أن جاهلاً بالأمر أبصر هيئة وجوهنا وحركة أجسادنا حينئذ ما شك أننا بحال من الروع الدهش وما مر بباله قط أن بنا أدنى شيء من اللذة. ولا أرى في مصداق ذلك أحسن مما قاله شيخ الشعراء هو ميروس في بعض أبواب الألياذة. وهو قوله يصف هيئة رجل رفع عنه الألم: إن مثله كمثل رجل أجرم وخاف السلطان ففر هارباً:

كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل

يؤتي إليه إن كل ثنية ... تميمها ترمي إليه بقاتل

فما زال بهذه الحال من الرعب والفرق حتى خرج من دار الخوف وأفضى إلى مأمن هنالك