للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[إعجاز القرآن]

ننشر هنا فصلاً من فصول الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب للرافعي. وكل فصول الكتاب كالحلق المفرغة لا يدري أين طرفاها حسناً واتقاناً، وبودنا أن ننشر هذا الكتاب كله في البيان ولكن ماذا يفيد صاحبه من وراء ذلك، وماذا نبقى له ولكتابه إذن - قال الرافعي تحت عنوان: التحدي والمعارضة.

كان العرب قد بلغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة ومن دقة الحس البياني حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة من بلغائهم وفصائحهم مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم، لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضاً ويدور بعضها على بعض فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي وكأن معنى حياته في الألفاظ. وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام وفي جاهليتهم الثانية مع بعده حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص، واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.

فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظاً وأسلوباً ومعنى ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها وأن يحدث منها وكانت رأس أمره وقوام تدبيره إذ هي الأمة بصبغتها العقلية ومعناها النفسي وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين ومن طباع النفس التي جبلت عليها أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهم في ذلك وضربها الخذلان باليأس فقلما تنفعها نافة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى، وقلما تصنع شيئاً دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه. فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم ومن جهة الكلام الذي هو سيد