للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إذا باغتك شخص نفسك وفاجأك خيالك من غير مرآة وقد عاهد دير نفسه أن لا يسترسل في الذهول إلى هذا الحد وأملي أن لا يكلف نفسه مؤنة الوفاء بعهده.

وذلك لأن غياب المستر دير عن نفسه إنما هو حضوره بين يدي الله فإذا مر بك وعيناه تلقاء وجهك فلم يرك ومضي في طريقه كأنه لم يعثر بإنسان فاعذره واعلم أنه في تلك الدقيقة بمحراب الله في بيت المقدس أو طائف يدور بأضرحة الأنبياء ومقابر الأولياء والشهداء أو ربما كان في هذه اللحظة مع أرواح الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وهارنجتون يفكر فيما عسى يرفع أمتك وبني جنسك جميعاً في مرقاة التمدين والسعادة.

وكان المستر دير بدأ أعماله بعد تدآب الدرس وجهد المذاكرة مدرساً مع ناظر مدرسة فظ غليظ القلب جامد الكف جعد الأنامل مظلم الجناب موحش الكنف لا تندى راحته ولا يبض حجره بمرتب شهري قدره ستون قرشاً خلاف الأكل والشرب والمسكن وما حدث قط أنه أخذ أكثر من نصف ذاك المرتب البخس مدة إقامته مع ذلك الناظر السافل الوغد وكان إذا أثخن الدهر في ثيابه وأطل الفقر من خروق سراويله لدى الركبتين ومن نوافذ ردائه عند المرفقين فاضطر برغم خجله واحتشامه إلى التعريض بذكر المرتب النزر تشاغل عنه الناظر اللئيم وتغافل حتى إذا قام بعد العشاء بين التلاميذ واعظاً وخطيباً لم ينس أن يذكر في عرض كلامه جملة عن فوائد الفقر ومزاياه ومضار المال وبلاياه خاتماً مقالته بقول الإنجيل اللهم اكف عبادك الصالحين شر الثراء ونقمة الطمع! وما يماثلها من الآيات والجمل - فكانت لسائر الطلبة حكماً وعظات وكانت لصاحبنا دير وصلا كاملاً بجميع المتأخر له لدى الناظر.