للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان من فعلة الأول أن ولدت حرباً عواناً طاحنة، تتضارب فيها دنيات العالم الحديث وحضاراته، وتتنازع البقاء دولة وأماراته، وأخرجت من بين أثناء الإنسانية المهذبة، حيوانية الإنسانية الأولى، بعد ان كانت مختفية وراء أستار العلوم، وحجب المدينة، وأغشية الفلسفة، وأطباق التربية، فرجعت تحمل كما كانت في الأعصر الحجرية، آلات التدمير والتخريب، وأسلحة النسف والحصد، وبذلك آثرت على حسنات العلم سيئاته. وقذفت أحكام فلاسفتها ومفكريها، وتعاليم سلمييها واشتراكييها، ثم عمدت إلى خرائطها ومصوراتها، تعدو على حدودها المقررة، وترفع تخومها الموضوعة، ونزعت عنها تلك الأثواب الجميلة التي خلعها عليها الفلاسفة والمفكرون، لتشتمل في تلك الأثواب العسكرية التي حاكمها السياسيون والحربيون.

وما كان من تلك الجريمة الأخرى التي اندفع إليها ذلك الشاب المجنون المرور إلا أن كدر صفاء أمة هادئة وأساء إلى شعب وديع، لا يستمد حياته إلا من حياة أميره، ولا ينال نشاطه وتطوره إلا من حسن ملكة مليكه، ولا ينهض إلا برعاية سموه وجميل عطفه وعنايته، وكأن ذلك المفتون، إذ صوب مسدسه إلى الأمير، ما صوبه إلا إلى أمته، وما أراد من غيلته إلا اغتيال رعيته، وهل كانت حياة الأمير إلا عماد هذه الأمة وقوامها، وهل كان في سلامته إلا سلامتها وسلامها، وكذلك أبى القدر أن يقضي على شعب من لوثة فرد، فرد تلك الرصاصات الخائنة طائشة، وجعل جراح الأمير المفدى غير بالغة، وأنقذ الأمة المصرية من نكبة قاتلة، يعلم الله ما تكون عقباها، وما يكون من مآلها، وقد عجل الله لأميرنا الشفاء، وأتم عليه العافية، وحفظ حياته لحياة الرعية، ينهض بها أعلى أونج العلم والرقي.

تلك آثار المجانين بمبادئ الفوضوية، وهذه سيئات إصلاحهم المزعوم، فقد وهموا أن النظام الاجتماعي الحاضر يقوم على ضروب من المفاسد شتى، وما علموا أن فوضويتهم أشد إفساداً للمجتمع من هذه المفاسد نفسها، بل أن وجودهم في الجمعيات البشرية هو الفساد الفذ الذي سيجري بالمجتمع في سبل عدة من التدهور والفناء.

ونحن نقدم إلى القراء لمعة في تاريخ هذه النظرية، والأطوار التي تعاقبت عليها وعلى الذين استهدفوا لشرها وويلاتها.

الفوضوية نظرية يقصد بها أن يعيش المجتمع بلا حكومة فوقه، لا يربط هذا المجتمع ولا