للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

جرجولتز، حتى في مدى الأثنى عشر عاماً التي لبثها، أن ينجز شيئاً من الإصلاح، فقد حاطه عبد الحميد بعدة من الجواسيس والعيون، يحولون بينه وبين كل سبيل، ويعرقلون له كل سعى، وحدث مرة أن جولتز نجح في استخلاص الأذن من السلطان بإقامة استعراض يمثل القتال، وما كاد يبدأ بذلك الاستعراض، حتى جاءه الأمر بالامتناع عن إتمامه، لأن عيون السلطان ألقت في أذنه أن السبب الوحيد في عمل هذا الاستعراض هو القيام بمؤامرة حربية عليه، ولم يسمح ذلك السلطان العصبي المستبد يوماً للقائد جولتز أن يترك جنوده في أيام التمرين يستعملون رصاصات الخرطوش، وما استطاع يوماً أن يجعل مدفعيته تستعمل في أوقات التجربة شيئاً من البارود، واشتريت بنادق موزر من ألمانيا لأجل الجنود العثمانية، ولكنها ظلت مكدسة في غرائرها مربوطة في أكياسها زهاء ست سنين في مخازن الآستانة، وهذه هي التأثيرات التي كان يعمل تحتها القائد جولتز.

ولكن قوة الرجل ودأبه العظيم وصبره الطويل، كل ذلك ساعده على أن لا يرحل عن تركيا إلا وقد أسس لها جيشاً وإدارة حربية ومدرسة عسكرية ومصلحة طبوغرافية، ووضع كذلك لها الخطط الحربية لقتال جيرانها والدفاع عن بيضتها حيال دول البلقان.

فلما كان عام ١٩٠٩، وقد وضعت تركيا الفتاة السلطان عبد الحميد عن العرش، وأعلنت الدستور، دعى جولتز بعد فراق أربعة عشر عاماً إلى الرجوع إلى تركيا وتنظيم الجيش الجديد، ولكنه اعتذر، على أنه قضى في العام التالي زهاء شهرين في الآستانة بين تلاميذه وأصدقائه القدماء، وقفل إلى ألمانيا راجعاً وهو يتوسم الخير في العصر الجديد.

ولما انهزمت تركيا في حرب البلقان الأخيرة، جعل بعض القوم في برلين وألمانيا يرمون جولتز باشا بالنقص، وينسبون إليه جريرة هذه الهزيمة.

هذا الجندي الشيخ، قد أوفى على السبعين، وكان في حرب سنة ١٨٦٦ ملازماً ثانياً وقد تفتت عظم كتفه اليسرى في تلك الحرب من إحدى القنابل، ثم جعل يرتقي من مرتبة إلى مرتبة حتى فاز بلقب الفيلد مارشال وبوسام النسر الأسود، وهو يرجع نسبه إلى أسرة جولتز وقد نبغ له جد ارتقي إلى رتبة المارشال في عهد لويس الرابع عشر، وهو رقيق المظهر مشرق الطلعة، على حين أن له قلباً من الصخر وإرادة من الحديد، لا تحفل بشيء ولا تكترث، وأكثر مزايا شخصيته الإعراض عمن فوقه من الناس والتعطف والتودد لمن