للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في نظمه آيات السخف والخلط لما أخذت علة فقاره تؤثر على دماغه، والشاعر (بيرون) كان فيه ذاك الشذوذ الذي تسميه العامة (نبوغاً) ويسميه علماء النفس (مرض الذهن) حقاً أن ذلك التشاؤم الذي ترى صاحبه يغمى عليه إذا هو أبصر حبيباً يغازل حبيبه وتراه يسكب الدموع لرؤية الشمس ساطعة في صباح يوم صحو بلا سبب ولا قصد ولا فائدة ولا سلوى - مثل هذا التشاؤم هو بلا أدنى نزاع مرض خبيث لا يتمناه امرؤ وبه ذرة من العقل.

والآن نسطر كلمة في التشاؤم المتكلف الكاذب وأربابه الذي يجعلون انتقاص الطبيعة وانتقاد العالم وذم الدنيا ذريعة إلى تمييز أنفسهم عن سواد الناس فترى أحدهم يرهف حد لسانه ويريش سهام القذف والهجاء ليقال ذو حنكة وتجربة قد خاض أهوالاً وغمرات، واقتحم أخاطاراً وعقبات، وتراه يردد الزفرات والأنات ليقال أنه من الفئة القليلة التي أفردتها الأقدار دون سائر الناس بالنفاذ إلى خبايا الأحزان، فمثل هذا التشاؤم ليس له علة فسيولوجية ولا سبب بسيكولوجي إذ لا أصل له إلا التصنع والرياء وأحسن ما تستقبل به صاحب هذا المذهب هو أن تغمز جنبه مداعبة وتناديه يقول الفرنس ويحك يا خبيث! (أو بقول عامة المصريين اطلع من دول يا لئيم).

وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي شكوى المتشائمين من وجود الألم في الدنيا فيا للضلال بل للجحود ونكران الجميل. أما أنه لو كانت الدنيا خلواً من الألم إذن لوجب على الإنسان أن يحدثه ويبدعه! فإنه لعمرك من أجزل حسنات الطبيعة وأجل آلائها! وهل هو إلا دليل على صحة الجهاز العصبي ودقة تركيبه وأحكام صنعه، وصحة الجهاز العصبي وأحكامه ودقته هي علة إدراك الملاذ واصل الإحساس بالمسار التي لا يجرأ امرؤ على إنكار وجودها في هذا العالم، فالكائنات الحية السفلى هي ضعيفة الشعور بالألم ولكنها أيضاً ضعيفة الشعور باللذة، أولاً يكون من المنكر أن يصبح الجهاز العصبي في الإنسان من حدة الشعور باللذة بحيث ينتشي أحدنا من عبق الأزهار ورنين الأوتار ونشيد الأشعار ودمية الحفار وهو مع ذلك من بلادة الإحساس بالألم بحيث لا تؤذيه الأرواح الخبيثة والضوضاء المزعجة والمناظر الكريهة، هلا سألت مفلوجاً مشلول أحد الشقين أو كليهما، أيسره ما هو فيه من عدم الشعور بالألم؟ نعم أن الدنيا لا تصيبه بأدنى أذى ولكنها لا تهدي إليه كذلك