للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مع ذلك لا نتوق إلى شمس الزهرة الوهاجة ولا ننزع إلى سماء زحل الباهرة وأقمارها راضين عن فلكنا المتواضع لا نريد تحولاً عنه إلى غيره وأن كان أشرف منزلة وأعلى قدراً، ولكن مالنا ولاستهباط الأمثال من العوالم العلوية والتحليق إلى الأجرام السماوية، بل حسبنا نظرة نحو الأقطار القطبية، أن في هذه البقاع أناساً يضرب المثل بطلاقتهم وبشرهم وبفرحهم وبمرحهم قد اغتبطوا بحالهم وسروا بعيشهم لا يكادون يحسبون أن في الأرض شيئاً أحسن من بيوتهم المغلقة بالثلج وأمتع من ليلهم السرمدي، وهم لو كان فيهم الشعراء لمدحوا قفارهم الثلجية المجدبة بما لم يمدح به شعراؤنا المنظر الأنيق من ضفاف وادي الرين والعيش الأفانين في ظلاله الرطاب بين ماء من اللجين وكرم من العسجد وبساط من الزمرد، وأن في سرور أولئك القوم بحياتهم الثلجية مضيعة لما ينتابنا من الخوف عند ذكر العصر الثلجي الذي يزعم أرباب مذهب البرودة أنه سيجيء في مستقبل الزمان، نحن إذا تخلينا هذا العصر الثلجي تراءت لأوهامنا أهله وكأنهم يلتحفون فرو الدببة جاثين إلى نار ضئيلة قد أذكيت من آخر بقايا الفحم يلقون شعاعها المضمحل بأبدان مضمحلة قد شفها السقم وبراها الضنى كأنهم لشدة الإحراق والحزن والقردة في المتحف الحيواني ببرلين، على أن هذه الصورة المتخيلة خطأ محض بدليل أنه إذا اتخذنا حياة ساكن الثلوج القطبية الاسكيمو معياراً نقيس به ما سيكون من ذريتنا أهل المستقبل الثلجي إذن لاتضح لنا أن هذا الجيل القادم سيكون أشد بني الدنيا سروراً وأكثرهم حبوراً، فسوف تقوم لهم الأعياد الهزلية (الكرنفال) والأسواق اليومية في ميادينهم الشهباء وسوف يطردون القر من مفاصلهم بآداب الرقص على أناشيد الشراب وسوف يلذون من زيوت الحوت ما تلذه أنت من الرحيق المختوم والعسل المصفى وإذا حضرت الوفاة أحدهم وتقلصت عنه ظلال الحياة قضى وهو مفتر عن نواجذه وأنامله مطوية على العدد الأخير من صحيفة العصر الهزلية.

وعلى الرغم مما يؤكده لنا الشعراء من أن الحياة ليست هي النعمة الكبرى والمتاع إلا كبر فقد نرى ونحس أنها لكذلك. وأنه ليس شيء أهول وأخوف من فكرة الهلاك - فقدان الشعور وفناء الشخصية. والموت آلم شيء حتى ولو تعدى نفوسنا إلى أنفس عزيزات علينا حبيبات إلينا. ولعل خير ما يتمناه امرؤ لنفسه وأهل وده من قريب أو نسيب أو حبيب هو العمر الطويل والأجل المديد وحده الأعلى هو مائة أو مائة وعشرون حجة. وأن