للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والمصاعب وميلاً شديداً إلى سوء الظن بالعاقبة مما يثبط همة المستنصح المستشير، فما هي العلة في ذلك؟ هي أنه في مثل هذه الحال ينعدم ذلك العامل القوي - عامل التفاؤل الذاتي الكامن العتيد الذي من شأنه أن يقطع لسان العقل ويخرس صوت البرهان ويجري عملية الحساب كما شاء الميل والهوى، ولذلك ترانا نبصر العقبات والمشاق بعين جلية مع فقدان ذلك التحمس الذي يثور في الفؤاد لتذليل هذه المشاق بعين العقبات والذي لا يجده ولا يحسه إلا صاحب المشروع وطالب الأمر وهذا يرى فيما يحاول ويريغ خلاف ما يراه النصيح المستفتى، إذ النصيح إنما يرى من الأمر أحد جوانبه وليس يبصر طول خط الهجوم الذي تعده همة صاحب المشروع وعزمه لهزيمة الصعاب وبلوغ المدى.

وأقاصيص الجان وهي القوالب المفرغ فيها آراء العامة الأميين في الكون والحياة هي حجة مستمرة على عنصر التفاؤل في تركيب الإنسان. لقد ذكرت لك إخلاد الفرد لفكرة الموت واستسلامه لحقيقة الفناء، على أن الأمة تصنع ما هو أكثر من ذلك إذ تحول الشر المحتوم خيراً وتستخرج من السيئة حسنة فتخترع القصة ترمى إلى أنها منة وموهبة وأن الحياة الأبدية شقاء وبؤس، وهذا مغزى حديث اليهودي التائه الذي يجعله واضع القصة يشتهي الموت في شدة يأسه تخلصاً من الحياة فلا يجد إلى الهلاك سبيلاً، ومثل هذا مغزى الفكاهة الحلوة عن الرجل المسكين الذي بهره ثقل صليبه فابتهل إلى الله أن يعطيه به بدلاً، فساقه الملك الحفيظ إلى مكان فيه عدد جم من الصلبان بين خفيف وثقيل: ودقيق وجليل، ومرهف وكليل، فجربها جميعاً فلم يجد بينها ما يوافقه، حتى إذا كاد أن ييأس منها حانت منه التفاتة فأبصر صليباً منبوذاً جانباً فتناوله وجربه فألفاه أحسنها ملاءمة له، أيها القارئ حدثني عن مبلغ عجبك حين أعلمك أن الرجل وجد هذا الصليب صليبه الذي استقال الله منه! وهكذا لا تبرح الإنسانية تكرر في شتى الصيغ وفنون الأساليب هذا المعنى الواحد وهو:

لن يجد امرؤ أحسن مما قيض له والخير في الواقع وقد ذلك من رام من حظه بدلاً، وأن الأحدب - كما جاء في بعض الأقاصيص - يجد من حلاوة العيش مع حدبته وشوهته مثل ما يجد ذو الشطاط (٢) مع حسن قده واعتدال قامته (٣).

وخلاصة القول أن أساس الوجدانات البشرية هو تفاؤل راسٍ راسخ وطيد عتيد فالتفاؤل إذن هو اسم آخر لشعور الحياة وإحساس الوجود وقدرة الإنسان على التوفيق بين نفسه