للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

خلقنا وصورنا عرف وحده سر الحياة، ومعنى الأرض، فقسم الحظوظ بين أطفالها وأولادها فخص قوماً منهم بالتربة الخصبة يحرثونها ويفلحونها، وبالحقول يزرعونها ويبذرونها، وآخرين منهم بالبنين يحبون ويعزون، والنساء يعشقون ويتصبون، وهؤلاء وهؤلاء باللذة العاجلة المسرعة يحتسون ويرتشفون، وقوماً غيرهم بالضوضاء العظيمة إذ يخطون فوق الأرض ويخطرون ولكنه قال للقلوب المؤمنة الصابرة المتعذبة لا تأخذي من متاع العاجلة شيئاً فستنعمين غداً منه وتبتهجين. . . نعم يا أماه، إن الرجل المؤمن المتعبد هو الآنية المقدسة الموقوفة للقبة المشرفة العالية، لا تفسد ماءها خمرة الناس، ولا تقتل نميرها العذاب لذاذاتهم، أنه في صمته إزاء ضوضاء الأحياء كقيثارة المعبد إزاء كل المعارف والمصادح والأعواد. . لا تسمع صوته العميق المنفرد الخفاق يمتزج خارج المعبد بأشتات أصوات الأرض المبددة، وضوضائها العقيمة الضائعة. . أنه ليرسل وهو في هدأة المعبد صوته العظيم المتدفق المتموج، يحمل إلى عرش الله ترنيمة الطبيعة وأنشودة الإنسانية.

ولكن لعلك قائلة يا والدتي. . أنه يعيش وحيداً معتزلاً منئبذاً. . أن روحه لن تلتهب يوماً بحرارة الحب، ولن تتقد بلهيب المرأة، ولذلك ستذبل في هذه العزلة وتجف وستضق في الوحدة وتضؤل. . أنه لا يشعر بنعمة الأسرة، وبهجة حياة البيت، وسيقسو لذلك قلبه وييبس. . ولكن قولي أنه يجد في الناس بيته وأسرته، وسيجعل له من محاويج الأرض وفقرائها أما وامرأة وطفلاً. . أنزل الله على قلبه عطفه العظيم فأصبح كل من يرى يتألم، وكل من يرى يبكي ويتعذب، صديقاً له وصاحباً وعشيراً إذن فلا تخافي يا أماه ولا تظني أن حبي لك سيزول أو يفنى، فإن الله الذي أحب ليس رباً حاسداً غيوراً، وأن العهد الذي عاهدته سيقربني من جنابه ويدنيني. . ولكن لن يبعدني عن قلبك ولن يقصيني،. . . إذن فلا تمسكي شفتيك عني، ولا تنظري إلى نظرة حزن ويأس، ولكن قولي يا أماه. . لقد حقت عليك رغبة الله! قولي يا أماه ما قالت سارة لربها. . ثم باركيني!. . .

٢٦ مايو سنة ١٧٨٦

وبكت سبعة أيام، كما بكت في الجبال ابنة يفتاح وفي أثرها صويحباتها الفتيات والأبكار، وإذ هي تسأل الله أن يمهلها ليالي وأياماً تبكي فيها ربيع الشباب، ونضارة الجمال الوديع الجميل، ثم تذهب بنفسها فتقدم عنقها إلى المذبح، وكذلك بكت والدتي ثم قالت ليكن يا بني