للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يحبون ويطالعهم من ناحية ما يفكرون ويعتقدون، ومن ثم كان الجمهور العادي في هذا البلد هو الذي يقود الفكر ويسيطر على الذهن ويستبد بكل منتجات القرائح، وثمرات العقول، وما كان الكتاب الذين تأبى عليهم مطالب الربح والذكر والشهرة إلا أن يتابعوا هذا الجمهور الذي لا يزال في طفولة الحياة، ولا يزال يعيش بروح الماضي، ولا تزال تحركه مبادئه وعقائده، إلا أكبر عقبة في سبيل تهذيب الجيل، وقتل حماقات العصر، وهم الذين لا ينون يفسدون على المهذبين العبقريين من أهل الناشئة الجديدة عملهم، وهم الذين أثاروا حقد الجمهور على كل ذهن جديد وعقل متوقد وروح متمردة من آثار الجمود، وهم الذين لا يفتأون يتلطفون للجمهور ويملقونه وينتصرون له، ويهجمون إلباً واحداً على كل كاتب نبيل الروح مفعم الذهن بكل ضروب التهذيب ووسائل الخروج بالحياة من كل غل من أغلال العبودية الاجتماعية، فلا يزالون به أو يفسدوه ويبددوا كل أثر من آثار إخلاصه. ويجتمعوا بعد ذلك على تركته، يتقاسمون الربح ويتشاطرون الابتهاج بالنصر، ولقد تكاثر في هذا العصر جموع هؤلاء الألفاف، وانتشرت زمرهم واستحصد شرهم، فراجت بذلك حالهم وطالت مكاسبهم وهم بعد خلقاء بهذا التشجيع من الجمهور لأنهم قطعة منه وهم ألسنته وصنائعه، ولأن المصانعة والمداهنة والتدليس من الطبائع المصرية العميقة في أرواحنا، الظاهرة في كل وجه من وجوه أعمالنا.

ولا يتلجلج في خاطرك أن مجرد وجود لمحة من الآداب في الأمة هو دليل الحياة وأنه أثر من آثار التقدم والانتعاش، وعنوان على روح الحضارة والرقي، فإنك لو عمدت إلى أحط قبائل الزنج وأغلظ أهل الأحراش والغاب إذن لوجدت لهم شاعراً مغلقاً يضج بالقصيد تلو القصيد على أصوات المزمار، ونقرة الدف، ورقصات القيان، ولرأيت لهم خطيباً مصقعاً يصرخ فيهم إذا عرض خطب، ويستنفرهم إذا نشبت حرب، ولأبصرت لهم كتبة ومشايخ جلَّة يعلمون ويؤدبون ويهذبون، وما أنت بمستطيع أن تمنع شاعرهم هذا من أن يشترك في لقب الشاعر مع شكسبير وهوجو والمتنبي، ولا خطيبهم هذا من أن يقاسم في لقب المصقع شريدان وجوريس والحجاج، ولكن هذا بعد ليس مقياساً صحيحاً للآداب، بل إنما تقاس الآداب بقوة ما فيها من روح السمو والنضوج وما نشعر من قوة ذهنية أهلها ومبلغ ما أخذوا من التهذيب والحضارة والعلم، والضروريات الأولى للأدب، وهي روح الفن. وقوة