للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[المساكين]

للنفوس الكبيرة وثَبات في شوط النبوغ تقطع في الوثبة الواحدة منها ما يقضى غيرها العمر في التعلق بأسبابه وبلوغ الغاية منه ولهذا لا يعجب النوابغ بأعمالهم بعض ما يعجب الناس من قدرتهم على هذه الأعمال، والنابغة هو الذي يستطيع أن يجعل كل سنة من عمره أو كل طائفة من العمر أثراً ظاهراً في التاريخ الذي يعاصره لأنه أحد الأفراد المعدودين الذين ينشأ من أدمغتهم هذا التاريخ.

على هذه القاعدة يجري نابغة الأدب العربي الشهير مصطفى صادق الرافعي فلا يكاد يصدر كتاباً حتى يأخذ في غيره فهو أبداً يبحث ويفكر وينظم وينثر كما تعرفه الأمة وإنما هي نفسه المضطرمة تحاول أن تبعث من أشعتها في الأفق لتظهر على الأرض قطعة من جمال السماء.

وقد وضع أخيراً كتاب المساكين - وهو تحت الطبع - يكشف به عن الحقيقتين الغامضتين في الحياة حقيقة الغني وحقيقة الفقر، لا يقرؤه الفقير حتى يرحم الغني ولا الغني حتى يرحم الفقير فكأنه مؤاخاة بين الخصمين المتنافرين في الإنسانية.

وقد أسند الكلام فيه إلى رجل اسمه (الشيخ علي) والشيخ علي هذا رجل أنعم الله عليه بالبلاهة والراحة والمَترَبة وليس في الأرض أشد منه على ذلك مرحاً واغتباطاً.

وسننشر في عدد آخر الترجمة الخيالية البديعة التي وضعها له الرافعي وربما نشرنا صورته.

والآن نقدم للقراء هذه القطعة من فصل عنوانه التعاسة - وأسعد الله قراءنا.

قال الشيخ علي:

وأنت يا بنيّ ما إن تزال تصبغ الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى. وعلم الله أن من يهوي في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك.

إنك يا بنيّ تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءاً بل قلوباً ودموعاً وتراها لا دوَلاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى نارين من قلبك ومن الشمس وإلى