للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مرمى، وجدنا لهذه الصورة ناحية محزنة، بل قل مبكية، فإن الرجل الحيي يعني رجلاً واحداً، قطع ما بينه وبين الرفقة، وحيل بينه وبين الجماعة، يمشي ويتحرك في العالم، ولكن لا يختلط به ولا يمتزج، يقوم بينه وبين الناس سور منيع شاهق، يحاول أن ينفذ منه، فلا يصيب منه إلا البطح فهو يرى الوجوه الصبيحة، والمطالع المتهللة، ويسمع الأصوات الغريدة، من الناحية الأخرى التي تقوم وراء هذا الجدار الخفي، فلا يستطيع أن يمد ذراعه ليلمس ذراعاً آخر،، ويقف يشهد الجماعات المبتهجة الفرحة، ويود لو يكلمها، وينعم بحديثها، ويطالبها بحقوق القربى، ولكنها تمر به غير ملتفتة ولا آبهة، يكلم بعضها بعضاً، ويضاحك رجالها نسائها، فلا يجد في نفسه القدرة على أن يستوقف أحداً منهم، ويحاول أن يصل إليهم، ولكن سجنه يتحرك معه حيث ذهب، فهو يمكث عن كثب من القوم كالمجذوم أو المبروص، وإن صدره ليفيض حباً وحناناً ورقة وعطفاً، ولكن العالم لايشعر بذلك ولا يدري ولا يعلم، لأن قناع الحياء يحجب وجهه، ويدع الناس لا يبصرون منه الرجل الحقيقي المسكين، وقد تثب الكلمات الرفيقة والتحيات الصديقة إلى شفتيه. ثم تتبدد فجأة في خفوت وهمس، والناس بعد يرون في المخلوق الخجول اللاهث المرتعش الركبتين المتشنج الأطراف، منظراً مؤلماً لهم، وإذا لم يستطع هذا المخلوق أن يطيب من هذا المرض فخيرٌ له أن يذهب ويشنق نفسه.

على أن العزاء الوحيد الذي يستطيع أهل الحياء أن يتعزوا به بينهم وبين أنفسهم هو أن الحياء ليس ولا ريب دليل الحماقة، ومن السهل جداً للمجانين المغفلين المعاتية أن يهزأوا بالأعصاب واضطرابها، ولكن الطبائع السامية لا يجب أن تكون هي التي تحتوي مقداراً كبيراً من هذا النحاس الأخلاقي الذي يوجد في وجوه المتبجحين، فالجواد ليس حيواناً أقل مكن الخطاف، وليس الغزال أقل من الخنزير، وليس معنى الحياء إلا تناهياً في الإحساس، ولا علاقة بينه وبين الزهو والكبرياء، وإن كان الثرثارون من مدرسة الفلسفة يصرون على القول بأن العلاقة بينهما متينة.

وفي الحقيقة أن الزهو هو أحسن الأدوية للشفاء من الحياء، فإذا أنت يوماً خطر لك أنك أبدع وأفضل وأشطر من غيرك فلان وفلان وفلان، فلا يلبث الخجل أن يمتنع عنك ويتركك، وتصبح متبجحاً، وأنت إذا استطعت أن تدير بصرك في الحجرة الغاصة