للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب الأدب والتاريخ]

مذكرات شبلي شميل

اليوم الثاني

أما جمال الدين فكان من نوابغ عصره، عالماً واسع الإطلاع في علوم الأقدمين وفلسفتهم، ذا ذكاء مفرط وأدب رائع، مع شجاعة في القول لا تصدر إلا من نفوس مستقلة كريمة وكان ذا حديث طلى شهي لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية في التزام القواعد واختيار الألفاظ ولكنها ممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب، وإنما وقعها على الأذن كان محبوباً ونظره كان جذاباً، وله عينان إلى إلى السواد غائرتان قليلاً تتقدان ذكاء. وهو لم يكن يعرف لغة من لغات الإفرنج الحافلة بالأفكار الجديدة والعلوم الحديثة ولكنه كان ذا مقدرة عجيبة في التحصيل حتى أنه ليستفيد منك الشيء الجديد ويصبه في قالب المعلوم المختمر ويوهمك أنه معروف له منذ زمان طويل. وجمال الدين لم يكتب فيما أعلم شيئاً وإنما كان يلقي على آخرين مقالات إضافية نشرت في جريدة مصر تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده يده الكاتبة لما كان لصوته صدى، ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها منه وماتت معهم، إذ كانت كل تعاليمه حديثاً يلقيه حسب مقتضى الحال. فهو فيلسوف من الفلاسفة المشائين الروائيين ورواقه كان رواق القهوة التي بجانب البوستة القديمة المتقدم ذكرها. ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان. وقبل جريدة مصر كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه، وأما جريدة مصر فكانت سبباً كبيراً لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.

ولما عرفت أديب بجمال الدين كانت معرفتي بهذا الأخير حديثة العهد. فقد كنت أسمع به وأنا في الإسكندرية فلما أتيت إلى مصر وددت أن أتعرف به. وكان يتردد كثيراً على بيت حنا عيد قنصل دولة البلجيك. فلما أبديت رغبتي هذه لعيد المذكور ضرب لي موعداً للإجتماع به عنده في إحدى السهرات. ولما تعارفنا أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث إلى أن ابتدرته بالسؤال الآتي (ولم يكن سبق لي كتابة أو تصريح في هذا الموضوع بعد) قلت - ما قول سيدي الشيخ (لفظة الأستاذ لم تكن قد جرت بعد على الألسنة كما هي اليوم) في