للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب الأدب والتاريخ]

مذكرات شبلي شميل

قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقين أي أنه كان ينشر تعاليمه في طي المحادثات الإعتيادية ولكنها كانت محادثات خلابة في لذة المعنى وحسن الإنسجام، ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضاً، وكان ذلك بمعنى أديب اسحق وفي تياتروزيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبني وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليه أدنى تعب أو يتعلثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب. قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا.

ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالة باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دهشت لتصوري أن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئه النظرية وفلسفته المجردة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فكان يتعذر عليه إلا أن يكون من الشكوكيين أمثال المعري وفولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادث أو قديم فيكونون تارةً من الإلهين وطوراً من اللا أدريين لعم تمكنهم من ضابط علمي محسوس يضبط أحكامهم ويقوي حجتهم في ترددهم اللهم إلا أن يكون كفولتير من النفعيين وجمال الدين تنبوا أخلاقه العالية عن ذلك. فبقي أنه من المصافيين الحكماء الذين يكونون في اعتقادهم على هوى جليسهم تارة أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حيث يقول إن الآراء ثلاثة أقسام رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه الأمن هو شريكه في اعتقادي. ويصعب علي جداً بعد اختباري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد ذلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من