للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها وكلا النوعين سواء في الإفتراس. والكلب والتوحش فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة. . . وقلما يؤذي الإنسان، قبل أن يؤذي بهذا اللسان.

ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الإنتحار وكأنما يخال لها أن في الموت عيشاً فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يعيشونها. ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت ولا أقول وهي حية ترزق فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس وجهاً وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ ولا تعطي وهي يد الموت.

وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملاً من شبع وري فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها وكأنها تقتل من وجهين.

وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر وأمضت نيتها على الموت غرقاً لتموت نظيفة وتكون لنفسها غاسلة وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء.

ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركناً أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت. وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه. وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة وكلما امتد بها السير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئٌ بها من عينيها. وإنها لكذلك إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع وهو يحمل طعامه الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوماً كاملاً. على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع أداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى.

قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة وأدرك أن روحها تخطو في أنفسها وإنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه طالما شد عليه حتى انطوى. ولأن لغمزاته حتى التوى، وما يعرف