للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

في قصرها. وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها فتاة وكأنما انشق لها القمر. ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم فلا يعلمون أن الفقر أواع كثيرة وأن الغني نفسه نوع من الفقر إلى الله. وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها. فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟

وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع. فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت ولقد تكون المصيبة جنوناً وإن لم يكن من أسمائها الجنون. على أنها لم تر ملجأً من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه وضرب الذهول بينها وبين اللعنة فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب. يا رب. ابنتي. ماذا جنت. مسكينة مسكينة.

وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم. . . . . فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب مسكينة مسكينة. ثم مرت الأيام وابنتها مريضة وهي مريضة ببنتها فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: أه يا ابنتي مسكينة مسكينة.

قال السيخ علي: وضرب الدهر من ضرباته خرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها وبينما هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق فجعلت تدانيه حتى حاذته فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الخزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والإنكسار، كأنما مات بعضها، وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها.

فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً ثم رفعت عينيها إلى السماء