للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه، فلم يبق إلا انفاق الأعمار وسيلة لاستدراك ما فات، وليكون ما يموت من عمرُ الأحياء فداءاً لآثار الحياة بعد من مات، وفي ذلك هم من الكد يلحف القلوب والأكباد وحرقة تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد. وضيقٌ يخيل للباحث أن بين الأوراق. بحاراً ذات أعماق، وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور بحروف الصخور، وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثب من جسده إلى يده، فيجد للقلم حزاً كالحز في الوريد، ومسامن نفسه كمس المبرد للحديد، بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قدرها وأوقد من فكره جمرها، فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها، ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها.

وأنا لم أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئاً إذا الأشياء حصلت الرجال، ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها وبياض الصحف وسوادها، فإني لست في هذا (العصر) ممن تخدعه الشمس بطول ظلله، أو تغره النفس بكثرة وقله، ولكني رأيت من كتب في هذا التايخ يريد أن يستولي على الأمد وادعاً في مكانه، ويلحق الطريدة ثانياً من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف والراي كما قيل ميزان لا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف، ولا أكذب الله فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية، اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض، واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمرٌ ماض، وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفاً والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفاً.

لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع، ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع، فإنما هي حقائق بعضها متمني فات، وبعضها لا يزال حملاً في بطون المؤلفات، فليس الصبر على نفض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.