للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإدانة والمسؤولية]

ـ ٢ ـ

إن سليم العقل من يقدر على فهم الأمور ولا يشذ في عمله عن دائرة الحكمة. وبعبارة أخرى من كان له في سلوكه قائد من التروي يتبصر في الأسباب ويوازن بين العلل التي تدفعه إلى العمل وتنهاه عنه ليختار لنفسه الطريق الذي ينبغي له أن يسير فيه.

غير أن اختياره هذا متوقف على الظروف والمؤثرات وعلى طبيعته وتركيب جسمه الذي يتأثر بعلة دون أخرى. ولكن أليس التركيب الجثماني نتيجة الوراثة والتربية، وعلى ذلك يكون سليم العقل هذا غير مسؤول أيضاً عن عمله.

إن الغرض الذي تنشده القوانين وتسعى إليه الشرائع هو تربية صحاح العقول وتهذيب نفوسهم وحملهم على التأني والتروي وزنة الأعمال بالحكمة حتى تكون على وفق ووئام مع صالح الهيئة الإجتماعية. ولو كان المرء خالياً من كل شيء ماعدا خوفه من القانون واحترامه إياه لكان الناس جميعاً كالمعتوهين الذين مر ذكرهم آنفاً.

ولو كانت القوانين صالحة لكانت معرفتها وراثية ولصار المجتمع الإنساني كخلايا النحل يؤدي كل وظيفة بدون ملل ولا ضجر.

غير أنا لم نصل إلى هذه الدرجة ولم نزل بعيدين عنها بمراحل عديدة. وكل فرد يتخذ من تربيته ووراثته (خصوصاً وراثته فإنه يوجد كثيرون متفقون في التربية غير أنهم مختلفون) محكمة باطنية يسميها بالضمير ويحكمها في كل شيء.

قال حكيم إذا أردت ألا تقاضي فلا تقض على أحد غير أن هذا الحكيم نفسه لم يسعه أن يتبع حكمته وينهي نفسه عن مقاضاة الناس والحكم عليهم بل استمر في محاكمتهم بدون هادة ولا انقطاع حيث وعد الذين يتبعون حكمته ويسيرون على مقتضاها بخير الجزاء ولكن ألم يأت دوره أيضاً في المحاكمة وحكم عليه بالصلب. أما نحن فلا ندعي أننا أعقل منه أو أكثر منه حكمة ولذلك لم نفتر عن مقاضاة الناس والحكم عليهم فإن هذا طبيعي في النفس.

يقضي العدل بمكافأة كل إنسان على قدر قيمته. ولكن أليست ضمائرنا هي الميزان الوحيد الذي نزن به أقدار الرجال ونحكمها في أعمالهم، وحكمها بات لا يقبل نقضاً؟ ومن المحال