للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الحرب]

كلمة شعرية نثرية بديعة في وصف الحرب الحاضرة

من كتاب المساكين

رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان. حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزل تصرعه وكأنها من شوقها تضمه. وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه. وهي مزرعة الموت نباتها الرؤوس، فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس، فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد.

بل هي ساحة لحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر في مسرحها الناس لتمثيل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر ناخره، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخره. وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بنى على الكسر وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يمكنه على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس. أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس، وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم. وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار. فثم المكان ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن. . . بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله