للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فقاره، فأصبح مؤمناً بها، منهزماً إزاء جبروتها، وأغرب ما في الطبيعة المزاحية التي خلقتها معه، واكتفت منه بالإعتراف بها والإنقياد لسلطانها، وتركته يمزح ما شاء وهو مريض ويمجن ما أحب، وهو في الساعة الأخيرة من حياته، ولهذا كان إيمانه لا يزال ممزوجاً بالنكتة، مختلطاً بالدعابة، ولكن حسبه أنه إيمان فرح بهيج، بعد أن كان كافراً موحشاً قاسي المجون رهيب المظهر.

وتفصيل قصة هذا الشاعر أنه أقام في باريس ستة عشر عاماً من سنة ١٨٣١ إلى سنة ١٨٤٧. وكان يعيش أبهج العيش، ويمرح في الحياة الباريسية. محبوباً مصفقاً له، معجباً به، يكتب تهكماته الحلوة، ويضع شعره العذب الجميل، ولكن ما كاد يحل عام ١٨٤٧ حتى بدأ يشعر بدنو مرض السلسلة الفقارية، وقد لبث بعد ذلك سبعة أعوام محبوساً في سريره، سجيناً في فراشه من أثر هذا المرض المخيف، وآخر مرة خرج فيها من البت كانت في مايو عام ١٨٤٨. وقد وصف ذلك فقال جعلت أجر نفسي بعد لأيٍ وجهد إلى متحف اللوفر، وقد كدت أسقط عياءً وضعفاً عندما دخلت القاعة الفخيمة حيث تجلس الآهة الجمال العزيزة، سيدة ميلو المحبوبة، فوق عرشها، فسقت نفسي وحملت ساقي إليها فجلست عند قدميها، وانطلقت أبكي بكاء مراسخينا يشفق الصخر منه، فنظرت إلي الإلاهة في رحمة ورثاء ورفق. ولكن في يأس وحيرة واضطراب في الوقت نفسه، ولعلها كانت تريد أن تقول لي ألا ترى أيها الإنسان المعذب أنني ليس لي ذراعان، فأحتضنك فيهما، ولهذا لا أستطيع أن أمد إليك يد العون! ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج هذا الشاعر الجميل من بيته، في الطابق الأعلى من منزل باريسي، وأصبح هذا الرجل الجائع الذهن المتطلب معرفة علم الكون محبوساً في حجرة صغيرة، بعيداً عن مراقبة الحياة، رهين محبسين مظلمين، إذ كان مرضه العصبي قد عدا إلى عينيه فذهب بلمعة يمناهما، وكان يرفع غطاء الأخرى بإصبعه ليرى العالم الذي حوله. وكان الأفيون هو النعمة الوحيدة التي ترسل إليه النوم، وتبعث إليه طائف الراحة والسكون. ولكن الغريب من أمره أن مرضه لم يستطع أن يؤثر على نزعته الشعرية، أو يعدو على شيءٍ من بهجة روحه.

قال يصف نفسه إذ ذاك هل أنا حقاً أعيش، وهل أنا موجود. . .، لقد ذبل جسمي وتلاشى، حتى لست الآن إلا صوتاً. وفراشي قد أعاد إلي ذكري قبر الساحر مرلين، الواقع في غابة