للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يواصلون دفع هذه الأقساط من أجسامهم وعيشهم وكل ما حولهم، حتى يستنفذوا جميع ذلك. ولا تزال الطبيعة تطالبهم بالباقي، فلا ينون يأخذون من الهبة نفسها وهي أذهانهم ويعطون الطبيعة صاغرين، لأنهم يخشون من فضيحة الديون، ولا يحبون أن يكسر عليهم شيء من أقساطهم، وعندما ينقص العظيم من أطراف البقية الباقية لديه وهي ذهنه، يراه الناس مجنوناً ويعده المجتمع المتطلع إليه، مريضاً مأفوناً، ويأنفون أن يعيشوا وراء مجنون، ويتبعوا ظل رجل مريض، فيطرحونه، ويذهبون عنه متفرقين، ليبحثوا عن ذهن جديد يركعون عنده وإذ يرون النتيجة أبداً واحدة، ونوابغهم دافعين إلا أقلهم إلى هوة الجنون أو المرض، يعودون فيصلحون ما أفسدوا في عهد حياتهم، فينصبون لهم التماثيل، ويقيمون الأضرحة، ويضعون الكتب البديعة عنهم، ويود أكثرهم أن يصابوا بنعمة هذا الجنون الطيب الذي ينتهي بهذه الخاتمة المرضية، ولكنهم لا يعلمون أن جنوناً عن جنون يفترق، لأن جنون ألف معتوه في دار المجانين لا يكاد يعدل جنون رجل عبقري واحد. لأن هؤلاء الألف إنما يحطمون زجاج النوافذ، وينطحون الأبواب والجدران، ولكن جنون العبقري إنما يحطم الآداب القديمة، ويمزق الكتب العتيقة، وينسخ كل ما في المكاتب، ويترك لكل كلمة يقولها ألف ذهن حائراً، وألف فؤاد مذهولاً. وهكذا يصلون عدواهم إلى الذين يقرأونهم، وينقلون قطعة من هذا الجنون المبارك إلى أذهان الذين يعيشون وراءهم، وكل قارئ من القراء المعجبين برجل نابغة مريض، إنما يحترق تحت تأثير ذلك السيال الكهربائي النافذ إلى ذهنه. وإذا كان أغلب الناي يتبعون النوابغ على حسب ذهنياتهم واختلاف مشاربهم، فلك أن تقول أن السواد الأعظم من العالم مجانين وإن الأرض قد أصبحت صورة مكبرة من السراي الصفراء.

إذن فليكن النوابغ مرضى، وليعش العبقريون على الجنون، فليس بضائر العالم جنونهم، ولعل جنونهم ومرضهم خير للناس وأبقى على نظام الأرض ولو كانت هذه القوة الجبارة تمشي على قانون منظم، ولو كانت عقول النوابغ تضطرد في مضطرد رقيق هادئ متناسق، إذن لطاحوا بالناس، وملكوا الدنيا أو قلبوها رأساً على عقب وإذ ذاك لا يسع القطعان الإنسانية إلا أن تهرب من وجوههم هروب الجرذان من أظلاف القطط. . ويومذاك يقفز هذا الكوكب ولا يبقى فيه إلا عفاريت آدمية تتضارب وتتجالد وتتنازع على