للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تغله تلك الأرض من غير أن يكلف نفسه عناء حرثها وفلاحتها ثم تدرج من ذلك إلى زراعة البقاع الخصبة، عن كان لا يصل إلى ثمرتها إلا بعد الكد والجد وعصب الريق. كذلك الحال في علوم النفس فإن أول ما بدأ الإنسان بالبحث فيه هي الظواهر الهينة اليسيرة التي لا كلفة ولا عناء في بحثها ودرسها وهي لا تفضي إلى نتائج ذات تأثير على أخلاق المرء وسلوكه في هذه الحياة ثم تدرج منها إلى دراسة النظريات الأساسية الجوهرية ذات النتائج الخطيرة الجليلة والآثار الصالحة المجدية وإن كان قد لقي فيها ما لقي من الجهد والعناء. وما وصل الباحثون في هذه العلوم إلى ما وصلوا إليه حتى استجلوا ما لقوة الفكر من الأثر الضئيل في الأخلاق واستيقنوا أنها ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بالأميال والعواطف والشهوات، وكل فكرة لها شيء من السلطان على الإرادة فإنما جاءها ذلك من اصطباغها بصبغة الأميال والشهوات.

لو أن هؤلاء المتقدمين بحثوا بحثاً وافياً في الإرادة ودوافعها لعلموا أن الأفكار المجردة لا تغني شيأً في قوة الإرادة وإن عاطفة واحدة يختارها المرء ويأخذ نفسه بها ويروضها عليها خليقة أن تصير قطباً تدور عليه حياته على شريطة أن يعرف كيف يستخدم مصادر القوى والوظائف المكتنة في أعماق نفسه ويعلم كيف يصرفها مع وجوهها المعقولة. ألا ترى كيف استطاع البخيل أن يحرم نفسه من جميع اللذات الجسدية من طعام شهي ولباس فاخر وفراش وثير وأن يعيش في عزلة عن الناس بلا صديق ولا أنيس كل ذلك حباً في الدرهم والدينار حتى رسخ هذا الخلق في نفسه رسوخاً لا سبيل إلى زحزحته. فهل تستبعد أيها القارئ بعد ذلك أن يكون لعاطفة شريفة راقية من السلطان على نفسك ما يجعل حياتك كلها وقفاً عليها وجميع أعمالك رهينة بها. إن كنت تستبعد هذا الأمر فما ذلك إلا لأانك تجهل الوسائل الكثيرة التي يمنحك إياها علم النفس والتي بها يمكنك أن تكون كما تريد أن تكون.

ولكن مما يدعو إلى الأسف أن الهمم لم تحم حول البحث في مصادر هذه القوى النفسية ووجوه الإنتفاع منها فإن العلماء الذين تولوا قيادة العقول في أوروبا في هذه الثلاثين عاماً الأخيرة قد انقسموا فريقين يرى كل منهما رأياً هو وتربية الإرادة على طرفي نقيض. بل ينكر كلاهما بتة إمكان هذه التربية ولا يسلمان بوجودها. وخلاصة المذهب الأول أن الأخلاق جملة ولدت مع الإنسان مكتنة في جبلته وغريزته فليس له من سلطان عليها ولن