للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البلوغ فلا يلبث حتى تهب في نفسه عواصف هوج تقتلع من نفسه ما غرس فيها من الملكات وتقلب ثمرة هذه المجهودات رأساً على عقب فتتبلبل أفكاره وعواطفه وينتابها الخلل والفوضى. فإذا لم يثب معتمداً على نفسه موجهاً وجهته إلى مكافحة هذه العواصف والجد في تكوين صفاته الأدبية وتجديد أخلاقه على أساس متين وقع لا محالة في تلك الحالة التي أفضنا في وصفها في الفصل الأول من الباب الثالث.

ولو فرضنا صحة ما يدعون وسلمنا بأن الخلق يولد مع المرء كما هو هبة منحتها الطبيعة للمرء فتجعل حياته ممتازة بصفة من الصفات وخلة من الخلال لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة لترتب على هذا الفرض وجود أناس تمكنت من نفوسهم بعض الأخلاق تمكناً شديداً حتى لا سبيل إلى زحزحتها منها.

ولكنا نتلمس مثل هؤلاء الرجال فلا نجدهم وإلا فأين هم؟

أفي عالم السياسة ونحن لا نكاد نرى رجالاً وجهوا كل همهم إلى غاية واحدة سامية راقية اللهم إلا القليل النادر منهم. وأما أغلب المشتغلين بالسياسة فإن أفكارهم وعواطفهم متشردة مبلبلة يذهبون مع كل ريح ولا يستقرون على حال من القلق وتراهم كثيري الجعجعة والحركة والاضطراب وقلما ترى لأحدهم رأياً سديداً أو عملاً رشيداً بل ترى في الكثير منهم أحلام الأطفال في أجسام الرجال.

أم في عالم الأدب؟ وأنت ترى أن أكثر أرباب الأقلام قد أجمعوا على تمجيد الوحشية البشرية واستخدموا أقلامهم في تزيين الشهوات الجسدية والانغماس في الترف والملاذ بعد النكبة التي أصابت فرنسا في صميمها عام ١٨٧٠ ويدلك على صحة رأي (مانزوني) وأنه أصاب كبد الحقيقة فيما قال ما تراه في فرنسا من نقصان المواليد بقدر ما ازدادت دواعي أثارت الشهوات وموجبات الانفعالات.

لم يهتم كتابنا بإيقاظ عوامل الشرف والنبل وطلب المعالي تلك العوامل الكامنة في نفوسنا المسكتة فيها بل عمدوا إلى تحريك غرائزها الفطرية البهيمية كأنهم اعتبروا الحياة البشرية منحصرة في النخاع الشوكي والنخاع المستطيل. ليس الذي يسطرونه بالأدب الذي يغذي العقول ويستصرخها إلى التأمل والتفكير بل أدب يستثير الشهوات ولا يحفل بالفضيلة ومكارم الأخلاق.