للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبحر من رباط شاخصاً إلى فرنسا زيارة وتنزهاً وتجوالاً، وفي مقابل ذلك سلم المعتمد الفرنسي أوراق اعتزاله، ولعل أغرب ما في تاريخ اعتزال الملوك، وأفكه ما في هذه القصة التي نبسطها للقراء الآن وأبعث على الضحك والدهشة هذه الصورة التي بين أيديهم وهي تمثل الحفيظ والمعتمد وقد وقفا إزاء بعضهما البعض، يحمل كل منهما في يده صورة التعهد الذي جرى بينهما ولا يظهر منه إلا طرفاً، وهو يخشى أن يدفع به إلى صاحبه فيفلت به دون أن يسلمه العهد الذي بيده.

وفي مساء اليوم الذي تلاه التوقيع على التنازل أعدم الحفيظ جميع الشعائر المقدسة للسلطة لأنه علم أنه آخر سلطان نعم بالاستقلال في الدولة المراكشية، فعزم على أن يقضى بانقضاء عهد الاستقلال على هذه الشارات التاريخية الخالدة فأحرق المظلة الحمراء التي كان يستظل بها في الرسميات والحفلات وحطم المحفة الرسمية وجعلها للنيران طعاماً ثم الصناديق والمحافظ التي كانت فيها المصاحب والكتب الدينية، ولكنه لم يستطع أن يحرق الكتب، بل أبقى عليها، وأخذ معه جواهر النساء ولآلئهن.

وعاد بعد زيارته فرنسا إلى طنجة، وكان قد وصل إليها إذ ذاك أسرته وحاشيته وهم يبلغون نحواً من مائة وستين شخصاً، فدفعت إليه قلعة طنجة المسماة بالقصبة لتكون مقامه في مثواه، ولم يلبث في طنجة أياماً حتى بدأت المناقشة في شروط اعتزاله، إذ كان قد كتب التنازل ولم توضع الشروط، وهنا احتدم الخلاف، واشتد الشجار بين الفريقين، ولم يكن الحفيظ يأسف على شيء من نعمة الاستقلال أسفه على أنه لم يضع شروطاً أحب إليه ويظفر ببنود في العهد أصلح لثروته ولكنه كان لا يزال يطمع في الحصول على مال آخر، وثروة أكبر.

وفي ذلك الحين طلب الفريقان إلى كاتب هذه السطور أن يتداخل في الأمر، ليصلح ذات البين، إذ كان قد وقع بين السلطان المخلوع وبين المفوضين الفرنسيين في الصلح مشهد رائع هائل، إذ احتد الحفيظ وشتم، وتكلم بلهجة قاسية ليست في شيء من لهجات الملوك، حتى أصبح الاتفاق أمراً مستحيلاً.

ففي ذات يوم، والوقت صباح، زارني موظف فرنسي ملتمساً إلى أن أتداخل بين الفريقين ثقة بأن لي دالة وأثراً على السلطان المخلوع، ثم لم يكد ينصرف حتى حضر الحفيظ نفسه