للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كلها، لم تكن في شيء من الروعة، وليست من العمق وبعد الغور وثقوب النظر إلى ما يرفعها إلى صف المبادئ الفكرية الجليلة، فلم تلبث أن نسيت وعفى الزمن عفاءه عليها، ولعل لطفي بك نفسه قد نسيها مع الناسين.

وهذا ما يبعثنا على أن نقول أن لطفي بك ليس إلا كاتب رسالات أنيقة، عذبة، متعددة الموضوعات، مختلفة الألوان، وأنه كان يكتب كلما عنت فكرة، أو خطر موضوع أو وقع في الصحف جدل، أو مر في قراءته بخطأ رأي ويريد أن يصلحه، ولكن هذا ولا ريب ليس دأب الكاتب المتولي زعامة الفكر المشرف على عالمه الصغير من الكتاب.

ولنقف الآن عند أسلوبه، فإن فضيلته كلها في هذا الأسلوب، وجميع شخصيته وعوارض نفسه ومنازع روحه متجلية في تلك المناحي، وهو يغلب عليه الشاعرية، وتمازجه روح فاتنة تستهوي الأفئدة، وإن كان خلاء من أساليب البلاغة، والمحسنات البديعية، إذ كان لطفي بك قليل المحفوظ منها، صغير الجعبة، ولكنه لو حفظ الكثير منها لأضربت به، لأنها تبدو إذ ذاك نابية بروحه، مبتردة الأثر في طي نفسه المتدفقة في قلمه، ولأضحى في أسلوبه رجلان، ومشي في ديباجته شخصان، كل منهما يعارض صاحبه، ويأخذ منه فضيلته، ليشوه من فضيلته، على أننا لا نزال نقول إن أسلوبه يعتريه الروح الخطابية، وتخالط لهجته الدفاع القضائي، فكأن كل موضوع أدبي لديه قضية في ساحة المحكمة، إذ يأخذ في شرح دعواها وتفصيل وجوهها، والخروج منها بالتفكير المنطقي إلى الغاية التي يتوخاها، وذلك يجعل أسلوبه متفككاً، مضطرباً ضعيف الأعصاب، مريض الشرايين، ولكنه لا يستطيع أن يغالب ذلك أو يحول دونه، لأن صناعته التي عاش الدهر الطويل عليها، ومهنته التي وضع يوماً روحه فيها وبذلت له أياماً روحها، تأبى عليه إلا أن يحتفظ بمادتها في أسلوبه ومناحي كتابته، وتصر على أن يظل بلفظة المحامي في تفكيره.

ولعل هناك باعثاً غير الصناعة، ونعني بها العادة، وهي شديدة الأثر، كبيرة السلطان على الروح، فنحن نعلم أن لطفي بك السيد اعتاد أن يكتب وهو في محضر كبير من الزوار، ويرسل القلم يجري فوق الورق على أحاديث الندى وهم صافون من حوله ذاهبون في سبل طولي من الثرثرة والجدل والمناظرة، حتى لقد ترى المقال الواحد من مقاله يحوي صوراً عدة من الضوضاء التي كانت حوله عندما كان مسترسلاً في كتابته، فلا تكاد تطالعك قطعة