للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفز وإذا وقفت به فعلى أديم الصخر.

فلا يزال في الوجود كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار وتتخطفه الأسفار، فمن هضاب يحوم فيها كالعقيان إلى بطاح يعسل فيها كالسيدان، ومن مجالدة زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال.

فما ثم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان، وما ثم مورد رائق فيمتح من عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل وتدور فيها الأبصار فتضل.

فسلام على تلك الجزيرة الجرداء ومرحى لتلك المجاهل الخلاء فوالله ما تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياط، ولا النمير يترقرق على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان عن جمال المكان، بل كانت مسبح الروح الأمين وموئل الدنيا والدين فتبارك الله أحسن الخالقين.

فأي نياط لا يتقطع، وأية مهجة لا تتصدع، فقد أودى أولئك الكرام، وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر إلى القبر.

فأين بنو قحطان، وفتيان عدنان، فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم ومآثر أجدادهم، ملء الأنجاد والأغوار وطلاع الدفاتر والأسفار، وأنها لتنطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال.

أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين وسدهم على اللغة أبواب التعريب والاشتقاق فحجروها في الحواشي وأقبعوها في المتون، لما ازورّ الطلاب عنها وامتلأوا نفوراً منها وكأن العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره ويلوك أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به العجز عن إنشاء فقرة وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات، وما أفتن فيه من الشواهد والنكات.

ولا بدع فإن الأصول وسيلة والأنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق وواسع البون وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب.