للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المشيخة العظماء لا يختلفون عن العامة في شيء إلا في مقدرتهم على التلهي بأوهامهم التي يهيمون فيها وأغلاطهم المعقدة المتفاقمة التي يصيبونها، إنهم ينظرون إلى الكون من وراء زجاجات متشعبة المناظر، منعكسة الصور، بدلاً من أن ينظروا إليها بأعينهم نفسها خلواً من تلك المناظر، ويشهدوها بأبصارهم كما خلقها الله لهم، ولكنهم يمين الله لا يغيرون من جوهر العين باستخدام نظاراتهم، ولا يبدلون طبيعة الأحجام باستخدام تلك المقاييس ولا يغيرون الأوزان باستعمال تلك الموازين، بل إنهم ليكتشفون من وراء ذلك صوراً ظاهرة ليس غير، إن كراهتي للعلم لتشتد وتثور كلما رأيته بين الناس محبوباً معززاً مكرماً!!

حديقة أبيقور

هذا هو الكتاب البديع من بين كتب أناتول فرانس وتواليفه، لأنه ليس إلا خواطر متفرقة غير موصولة، وآراء منثورة متتابعة في شؤون شتى وموضوعات متباينة، على نحو تواليف نيتشه وخواطره، ولعل أمثال تلك الكتب أخف مساغاً على الروح وأقرب منالاً من النفس.

٣

كثير من الناس في هذا العصر تغريهم الحياة بالإيمان بأنا قد بلغنا نهاية الحضارة، وألممنا على خاتمة الدنيا، ووصلنا إلى الدرجة الأخيرة من المدنية، وإن العالم بعدنا سينساق إلى خاتمته، ويهوي إلى الهاوية، ويسرع إلى الفناء والانقراض، وهم في ذلك أشبه بسادة المسيحية القديمة إذ ظنوا أن الدنيا لا تستطيع أن تجوز العام الألف من تاريخ مولد سيدهم ولكنهم لا يزالون متكهنين عصريين، أوتوا ذوق الجيل والمدنية، ولعل ذلك باعثه العزاء والزهو كأنهم يريدون أن يقولوا أن الكون لا تطاوعه نفسه أن يعيش بعدهم.

أما أنا فلست ألمح في الإنسانية أي دليل أو نذير للانقراض، ولست بنهاية الحياة مؤمناً، ولست لها مصدقاً، بل لا أعتقد أننا بلغنا شيئاً عظيماً من المدنية، وجزنا الخطى إلى نصيب وافر من الحضارة بل أرى أن ترقى الإنسانية نهاية في التراخي والبطء والمهل، وإن الفروق والاختلافات التي تبدو بين الجيل والجيل في الأخلاق والآداب من الضؤولة والدقة بحيث لا يكاد يلمسها الحس، ويشعر بها الذهن وإن كانت تدهشنا وتبغتنا وتقع منا على غرة على أننا قلما نلاحظ مظاهر الآداب وفروع الحياة التي لا نزال نجمد عليها كما عض