للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والاحتمال، على أنني جعلت فمي رطباً إذ رحت أرشف من الحين إلى الحين وأمتص بين كل لحظة وأختها العرق المتحدر من أكمامي وقميصي وألتقط القطرات المتصببة، وهي تسقط كقطرات المطر الوابل من وجهي ورأسي، ولا أصف لك اليأس والحزن والآلام التي كانت تثور بفؤادي إذا فرت قطرة منها أو أفلتت من فمي المتفتح لها، المفغور لتلقيها وقد لاحظني أحد رفاقي وأنا أعالج هذه الوسيلة فالتقط الفكرة، واسترق الوسيلة ومضى يمتص ما يتحدر من أكمامي ووجهي وأطراف بدني، وبذلك نهبني جزءاً عظيماً من كنزي، وسرقني نصيباً طيباً من هذا المختزن العزيز لدي إذ ذاك فلما أحسست ذلك منه، وأدركته عليه، جعلت كلما امتلأ كم من ثوبي أسرع فأمتصه قبله وأزاحمه على رشفه، وكثيراً ما التقت أنفي بأنفه، واصطدم فمي بفمه ونحن متنازعان على الثوب متقاتلان، وهذا الرجل كان من بين الذين نجوا من غائلة الموت بعد ذلك وهو اليوم يؤكد لي ويقنعني بأنه لا يزال مديناً بالحياة لي، بفضل القطرات العديدة التي امتصها من أكمامي، والحق أقول لكم لم يكن في العالم نمير عذب، ولا فرات كان أسوغ وأعذب وألذ من تلكم القطرات التي جعلت أحسوها من العرق المتصبب من ثوبي وبدني!!.

ولم تكد تنتصف الحادية عشرة حتى كان عدد عظيم من الجمع في حمى مرعبة، وغشية صارعة محزنة هاذية، وآخرون منهم علا ضجيجهم، واستحكم هذيانهم، وارتفعت الحمى لديهم، ولم يبق من القوم أحد ظل على شيء من الهدوء والسكينة إلا الذين نجوا بأماكن على مقربة من النافذتين، وقد وجد الجميع الآن أن الماء لا يسكن سورة الظمأ ولا يطفئ جذوته، بل يزيدها اشتعالاً، ويضرم نارها إضراماً، وأصبحت الصرخة العامة من جميع الأفواه، الهواء، الهواء! وراح الجمع يبتكر ألعن الشتائم، وأنكر السباب، وأقبح الكلم العوراء، لكي يخرج الحراس عن طورهم، ويثور حقنهم، فيرمونا بنيران بنادقهم، ويطلقوا علينا قذائفهم، حتى نستريح من العذاب، وننجو من الألم، ولو فعلوا لهرع كل إنسان من القوم يستقبل الرصاص بصدره، ويزاحم إخوته على الاستباق إلى ورود حياض الموت، ولكن هذه الحيلة لم تنجح فتراخى الذين اضمحلت قواهم، وخفت للموت أرواحهم، واضطجعوا على أديم الحجرة فوق صدور إخوانهم الهلكى، ورفقائهم الموتى الذين فارقوا هذه الآلام واستراحوا بالموت من العذاب الشديد في ظل الحياة، وآخرون لا يزال لديهم