للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وملاحة حديثه وحلاوة محضره، وفيض ألفاظه، وقارئ الروايات لا يلبث أن يدرك في لحظة واحدة أنه إزاء رجل ينشر الإثم، ويعيث في الأرض بغياً وفساداً، ولكنه عند كاتب الرواية ليس إلا رجلاً طيباً وشخصيته حلوة في عرض روايته، ولكن واآسفاه، أن هذا الرجل المخادع في الحياة الحقيقية، بعيداً عن الحياة الروائية وعالم القصص، ليس من هذا الضرب، ولا يشبه هذه الصورة، وإلا لو كان ذلك كذلك لاستطاع رجل من دعاة الآداب والمهيمنين على أخلاق الأمم والناصبين أنفسهم حكاماً على الفضيلة وأنصاراً لها، أن يعين رجلاً من رجاله ليمشي أمام هذا الإنسان المخيف بعلم أحمر حتى يحترز العذارى من شره، وتفتح الفتيات والسيدات أعينهن فلا يقعن في أشراكه.

إن هذا الإنسان الذي يخشاه الناس ويختصونه بمقتهم لا يزال كسائر الناس، وهو مثلنا جميعاً وهو رجل خير من أكرم خلق الله، وهو إنسان مقبول محبب نعرفه جميعاً ونحبه ونمد إليه يد الود، وتهتز قلوبنا فرحاً بعناقه وتخفق أفئدتنا ابتهاجاً إذ تلتقي بخفقان فؤاده، وليس له إلا هفوة صغيرة، ولا عيب فيه إلا ضعف واحد، ولكنه لم يحدث ذلك الضعف، ولم يلتمس تلك الهفوة، ولم يبتكرها لنفسه ابتكاراً، ولا يبين سوء القصد في عينيه، ولا تنم معارف وجهه عن فساد نيته بل كل ما يعيبه أنه مفرط العاطفة، بعيد مدى الفتون، مستسلم إلى شهوة نفسه، تارك مقادته إلى وجدانه، فهو يحس آلام الناس، ويألم لها أشد الألم، ويصيب من هموم غيره أحدُّ العذاب، وأشد الأسى، فإذا أراد أن يخفف منها ويؤاسي صاحبها، ويزيل عنه آلامه أغفل كثيراً من الاعتبارات، لا تبلغ في أهميتها خطورة ذلك الأسى الذي يحاول أن يبدده عن ذلك القلب الكبير.

وكان جفري ستايتون هذا مستجمعاً كل صفات الرجل التام، وكان على جميع ما يحب الناس أن يكون عليه الرجل، فقد كان شهماً تضطرم في جوانحه عواطف الفروسية وكان حيياً ناصع صفحة لاقلب وكان رقيق الجانحة لا يبلغ قلب من القلوب الإنسانية حد عطفه ومدى رفقه وحنانه، وكان مؤمناً مستمسكاً بعقائده الدينية وكان مؤدباً ما شئت من حسن أدب، طيب اللقاء ما شئت من كرم عنصر، وكان من فرط أدبه يتلعثم إذا تحدث إلى الغرباء عنه، ويتعثر في النطق إذا جلس إلى رجل لم يلتق به من قبل وكان يحن إلى الحرب والاشتمال ببردة الجندي والرحيل إلى ميدان القتال ولكن الأطباء إذ فحصوه هزوا