للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هادئاً والنسيم فاتراً عليلاً، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأى منا ومسمع وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ندّ منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول، وذلك أنا بعد أن صلينا الصبح حاضرة وصلى معنا هذا الأديب الصقلي رأيناه وقد انتحى ناحية وأخذ يططبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفاً لا يقتلها بالماء فأنكرت عليه ذلك إنكاراً شديداً وقلت له: ما تصنع الخمر، وإن أولها لمر وإن آخر لسكر، فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا فقال الأخطل: ولكن بين هاتين المنزلتين ما ملك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع ثم أنشد الأخطل:

إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير

خرجت أجر الذيل تيهاً كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير

ولله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث التي ما أظنه إلا اختلسها من عنب الجنة ليطرفنا بها فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلاماً ليسرى عنا ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس.

إن الذي جعل الهموم عقاربا ... جعل المدام حقيقة درياقها

أقتلا همي بصرف عقار ... واتركا الدهر فما شاء كانا

إن للمكروه لذعة هم ... فإذا دام المرء على المرء هانا

فقلت له ولكنها قبحها الله تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه كما قيل إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيق إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول:

من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا

ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا

فسرعان ما أنشد:

إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي

ولست بفاحش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي