للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عاطفة الانتقام إلا شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً ولعلها لا تبلغ أقصى مداها إلا بعد زوال البواعث التي اهتاجتها.

وكذلك تأثير الحياء في الحركة فإنه يرميها بالخطل والزلل فلا يحس الحيي الإتيان بأية حركة على وجهه ما دامت عيون الناس ترمقه حتى ولا إيماءة السلام أو قضم الطعام ولا يعمل الشيء إلا بيد عسراء شلاء تنبيء عن دخيلة أمره وتفصح عما انطوت عليه نفسه من الخجل والاضطراب.

وجملة القول أن الحياء يصيب قوى النفس في مقاتلها فيرمي الإدراك بالبله والإحساس بالبلادة والحركة بالخبل.

ولتعليل هذه الأعراض الغريبة نذكر طرفاً من تحليل نفسية الحيي لمعرفة أسرارها فنقول:

إنما يتولد الحياء من شعور المرء بعدم الإلفة بين قلبه وقلوب الناس وبعد ما بينهما من وجوه المشابهة والاتفاق فكأنما قلبه خلق في هذا العالم غريباً لا قرين له ولا أليف ولا أنيس، فكلما اشتد هذا الشعور ازداد الحيي خوفاً ووجلاً من الناس واشتط في طلب الفرار منهم والبعد عن وجوههم حتى إذا أتاحت له الأقدار قلوباً رحيمة مشفقة تشابهت وإياه في أساليب التفكير وخفقت بالعواطف والمشاعر الواحدة ألفها ووثق بها وركن إليها ولم يجد عند اجتماع بهم ذلك المضض والقلق الذين يشعر بهما عند اجتماعه بغيرهم، وهذه الحالة هي التي لمحها الشاعر في ثنايا نفسه فوصفها بقوله:

فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم

فأهل الوفاء والكرم الذين يعنيهم الشاعر إنما هم أهل مودته ومن ارتبط قلبه بقلوبهم برباط من الإلفة والثقة والولاء. فإذا فارقهم وعاشر غيرهم عاد إلى سيرته الأولى من الانقباض والاستحياء.

فأنت ترى مما تقدم أن الحيي امرؤ شديد الخيال يرى نفسه فوق نفوس الناس جميعاً ولذلك لا ترضيه أحوالهم وأطوارهم ومذاهبهم وطرائقهم في الحياة وكيف ترضيه وهو لا يعجبه إلا الكمال المطلق في كل شيء ويصور له يخاله أسلوباً للحياة لن تصل إليه الإنسانية قط. ثم أنه يحب ذاته حباً جماً ويحتفظ بكرامته وكل ما يتعلق بشخصيته أيما احتفاظ ويضن بها