للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولقد يخرج الحيي من انقباضه وانكماشه ويسترسل في الحديث ويذهب في كل مذهب حتى إذا حانت منه التفاتة فرأى خرقاً في بعض نواحي ثوبه لا تتبينه عين الرائي لتناهيه في الصغر خيل إليه أن عيون الجالسين ترقبه من كل صوب ومتوهم أنهم إنما يهزأون به ويسخرون من رقة حاله وفاقته ورثاته ثوبه فعندئذ تهب نوبة الحياء من غفلتها وتبدو بآثارها ومظاهرها.

وكثيراً ما يتفق لبعض الخطباء أو المحامين أو غيرهم ممن تقضي عليهم مهنتهم بالتكلم على ملأ من الناس أن ينظر إلى تلك النفوس التي ما عرفتها نفسه من قبل وما ألفها فيخشى من نقدها لما سيقول، واستصغارها له وعدم قدره حق قدره فيصعد الدم إلى رأسه ويحتقن في وجنتيه وترتعد فرائصه وتصطك أسنانه وتكاد رجلاه لا تقومان بحمله فتخور عزيمته ويصاب بالحصر، ثم يستعيد سكينته ورباطة جأشه شيئاً فشيئاً إلى أن تزول نوبة الحياء ويعود إلى حالته العادية وتنفتح أمامه أبواب القول.

أما الحكم على خلق الحياء هل هو عيب من العيوب الخلقية أم فضيلة يكرم صاحبها فقد اختلف فيه الكتاب والمفكرون والفلاسفة. ففريق يذهب إلى أنه مرض من الأمراض النفسية وأنه ضرب من ضروب الانحطاط وضعف الإرادة وفريق يرى أنه فضيلة من الفضائل وأنه يجري والعبقرية في مضمار واحد فما الحيي إلا شخص ساخط على حالة الكون ناقم على نظام الاجتماع متطلع إلى الكمال المطلق في كل شيء ففي باب العقليات لا يرضيه إلا العلم الغزير المترامي الأطراف المحيط بكل شيء الذي ينفذ من حجاب المادة الكثيفة إلى ما استتر وراءها من عالم الغيب. ومن وجهة الإحساسات لا يسبعه إلا اللذات الصافية من الشوائب التي لا يعقبها ألم أو تعب. والجمال الذي تعنو له الوجوه والأخلاق الفاضلة التي ليس للكذب والمخاتلة والطمع وما إلى ذلك من الدنايا الفاشية في الناس من سبيل إليها. ومن حيث المادة يشرئب إلى قوة جسدية دونها قوة الجبابرة وثروة طائلة يعد بجانبها قارون فقيراً معدماً. فإذا لم يكن في وسع الحيي أن يحقق تلك الأماني الكريمة التي تهجس في صدره فإن له على الأقل فضل التطلع إليهخا والتطاول نحوها.

وأكثر ما يصيب الحياء الإنسان وهو في مقتبل العمر وغضاضة الإهاب ثم تخف وطأته عنه شيئاً فشيئاً كلما تقدمت السن وازداد علماً بحقيقة الوجود وأمعن في تجاريب الحياة