للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على الدنيا كلها، وعلى الغرب خاصة، وهم المعتزون بحرية الفكر النافجون باستقلال الرأي، المفاخرون بأن صراحة نفوسهم واستقلال أذهانهم وتحرر عقولهم تجعلهم في عاصم من متابعة الهوى والسكون إلى التحيز الرضا بذبذبة الرأي، فلا نلبث أن نجد أن هذا الاستقلال الفكري الذي به يعتزون ليس في الحقيقة إلا استقلالاً ظاهرياً أكثر منه حقيقة صادقاً، وأن الناس لا يزالون في إسار من ناحية الأذهان إذا هم أرادوا أن يروا أو يحكموا عن أعمال غيرهم وفضل سواهم من سائر أهل الإنسانية، فإنه في كل رجل من أهل الغرب يوجد رجلان ويتألف منه شخصان، الرجل الحديث العصري (آخر طبعة) وليد العلم والوسط الأدبي والذهني الذي نشأن فيه، والرجل القديم العتيق الذي لا يزال سلسلة مركبة تربطه بالماضي البعيد ومن هذا الرجل الذي يطل بين ثنايا الإنسان يستمد كل خص آراؤه في الناس وأحكامه في أخلاقهم وشؤونهم ومكانهم من الحياة والرقي بجانبه ويلوح لنا أنه يعز على أهل الغرب أن يعترفوا بأن الشرق هو الذي رقى الغرب. وأن الشرقيين هم سادات الدنيا في الحضارة. وعنهم أخذ الغربيون هذا الفضل العظيم الذي يزهون اليوم بآثاره في جميع أنحاء الأرض لأنهم يرون حاضر الشرق والنكسة التي انتكسها اليوم. والركود الآسن الذي جرى في أهله. فيشفقون من أن يعترفوا بالماضي ويدينوا للحق. ويصدعوا برأيهم العميق الخفي. في عظمة الشرق. فيكون من ذلك إنهاض لهمم الشرقيين واستثارة لعزائمهم واحتثاث علم على إعادة آثار ذلك الماضي المجيد والدولة التي لهم في عين الشمس.

على أن الشرق وإن أصر الغربيون واستكبروا استكباراً لا يقل اليوم في مادة العظمة عن الفرب وإن تقاوي العظمة وبذورها لا تزال توجد في كثير من بلدانه وأقطاره، وإن لم تتيسر الظروف لزرع تلك البذور وسقيها، ولم تمهد الأرض الصالحة لإنباتها. وإخراج شطئها، ولكن تلك الظروف ولا ريب سانحة في مستقبل الأيام. والأرض عما قليل مخصبة صالحة لثمار تلك الزروع الطيبة.

وإذا كان الغربيون ينكرون اليوم، ويدعون بأن العظمة احتكار من احتكارات شركاتهم وأممهم. فإن التاريخ لم يحرق بعد، ولا يزال كتاب الدنيا مفتوحاً يقرأ الناس فيه ما كان من المشرقين، وما كان من فضل الحضارتين.