للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[حديث المائدة]

قال الأستاذ: فرح أصحاب المائدة بعودتي إليهم حتى قال لي أحدهم على سبيل الإطراء (إنك لتتكلم كالذي يعتقد صحة كلامه) فكأن هذا الرجل كان يرى ذلك فيّ خلقاً نادراً وخلة غير معهودة حتى ذكرها لنا.

قلت (أي الأستاذ): من حاول التحدث بجد وإخلاص عرض نفسه للوقوع في آفتين الأولى: الصراحة المؤلمة. والثانية: الغلظة. ولا يخفى أن الغرض من التحدث إلى رجل أجنبي هو أن يعطي الإنسان ويأخذ من الحياة الحقيقية الخاصة بالاثنين أقصى ما تسمح به الفرصة. ولكن الحياة والحديث كثيراً ما يتضاءلان حتى يستحيلا إلى مجرد ألفاظ فارغة. ولقد روى لنا المستر (هاك) عدة نوادر عن أسلوب المحاورة بين رجلين من أهالي الصين كانا يتحدثان الأحاديث الطويلة المسهبة دون أن يلفظ أحدهما بكلمة ذات معنى: وهذه الأعجوبة ليست مقصورة على القاطنين وراء السد (سد يأجوج ومأجوج - حائط الصين) من الجنس الأصفر ولكنها تصادف كثيراً في النازلين دون السد من الأجناس الأخرى وأبرع المحدثين من الصينيين بضع نساء حسان أعرفهن وألقاهن أحياناً. فإذا رأيتهن فما شئت من ظرف وإيناس ومنطق حلو رخيم الحواشي تتطاير منه شظايا الملق والتقريظ تطاير نتف الوريقات الذهبية في الماء المعطر - وتنسجم ألفاظه انسجام الجدول السلسال - لا ترى فيه طغياناً ولا ركوداً - ولكن كلمات مؤتلفات متناسقات لا يتخللها مجاز بديع ولا استعارة مدهشة - فهن يصغن من الهواء ألفاظاً حلوة الانسجام لا تجد فيها من المعنى إلا مثلما تجد في السحاب من القصور الخيالية أو في جمرات موقد الشتاء من الوجوه الوهمية.

لعلك أيها القارئ، كنت يوماً في قطار ففصلت عنه الآلة البخارية قبل بلوغه المحطة بمسافة بعيدة على أن القطار استمر بالرغم من ذلك في مسيره بسرعة وسكينة كما لو كانت الآلة لم تزل متصلة به وتسحبه. ولو لم تكن قد أبصرت بعينك الآلة تفصل وتنعطف في طريق جانبي لما هجس بظنك أنك تسير بقوة حقيقية ميتة. فهذا كمثل أولئك النسوة الحسان الآنفات الذكر - فلعمري إن فيهن من تفصل ذهنها فصلاً تاماً عن حديثها ـ.

وأعجب من ذلك أننا لا نشعر بما صنعت فلا نرى البتة فرقاً. فشفاههن تساقط الكلم المستعذب كما تساقط أناملهن قطرات النغم المستملح من معازفهن - فالاعتياد المجرد من الإدراك يحول المعنى حروفاً ملفوظة على نحو ما يحول المعنى الموسيقى حروفاً نغمية