للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الجماعات الإنسانية فيها متضائلة بجانب أختها حاسة الدين، مستسلمة لأحكامها، نازلة على أمرها ونهيها، إذ كان الناس يرون يمذاك أن الأرض فسيحة فحيث القي الفرد خيامه، وضرب مضاربه، وسرح ماشيته. فله أن يميها وطناً، وينسبها له داراً، فإذا سئمها وانتقل به عنها مطلب من مطالب الحياة أو وثبة من وثبات الدين، فما هم بضائره أن يتحمل إلى مكان آخر يختاره وينزل حيث تحط به ركابه، فإذا هو عند وطن جديد، وإذا هو ناشئ في قوم آخرين، ولهذا كثير ما اقتتلت عشائر كانت تعيش في إقليم واحد، وتتجاور في صعيد مفرد، وحمل القوم على إخوانهم الذبن يشاركونهم في ملكية الأرض التي هم عليها جميعاً، وراء الخلاف الديني، ونزاع العقيدة للعقيدة، فلم يكن من ذلك إلا أن أغار عليهم من هم أقوى منهم جانباً، وكان من خلافهم أن ديثوا بالصغار وحقت عليهم المهانة وذلة الأسار.

على أنه كان الدين في العصور الماضية قد تغلب على الروح الوطنية. فما كان ذلك إلا لأن العقل الإنساني كان لا يزال ضيق الدائرة، محصور المضطرب لا يستطيع أن يتحمل التسامح الفكري، وحرية المبدأ، لأنه كان يخشى أن يكون في تقلبه ذلك الشر كله على مبادئه. وكان يشفق من أن يهدم عقيدته أو يضعف من شوكتها، أو يفقدها مكانتها إذا أجاز بجانبها عقيدة عقل غيره وارتضى أن تعيش مذاهب الناس بجانب مذهبه. وخاف أن يفقد كل شيء إذا هو فعل ذلك ثم تبين له سخف بجانب عقائد جاره ومنافسه.

ولكن العقل الإنساني الذي صير على سلطان الدين ومشى على حكمه قروناً عدة وأجيالاً، ما زال يوسع من جوانبه أن خفية أو جهاراً يفتح نوافذه المطلة على حدود الشك والتفكير المطلق الحر خلسة واستتاراً، لكي تدخل إليه نسائم الرياح النقية المتطهرة فتمسح عنه بعض أقداره حتى استطاع آخر أمره أن يعلن على رأس العالم كله أن العقل الإنساني لا حدود له ولا تخوم وأن من أكبر الجرائم أن يوحد العقل في العالم بأسرد فتعيش الدنيا كله بعقل واحد. وأنه ينبغي لهذا أن تحترم كل عقيدة. لأن في احترامها احتراماً للعقل الذي صدرت عنه. وكان في ذلك أول بواكر التسامح الفكري. وظهور حرية الأديان في العالم وإذا استتب بالتسامح في الدنيا المقام بدأت روح الدفاع عن الأرض تنمو وتزحزح روح الدفاع عن السماء. حتى جعل الناس في المدينة الحديثة يؤثرون وطنهم على الدنيا بأجمعها. وعلى الأرض والسماء معاً، وانكمشت الروح الدينية فأضحت في مكانتها الواجبة لها. وهي