للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعلى هذا النحو كانت حالتي النفسانية. وذلك أني كنت قد أكثرت من الإطلاع وتعلمت فن التصوير. وحفظت غيباً أشياء عديدة بلا نظام ولا ترتيب فكنت ترى رأسي تارة خالياً وتارةً مفعماً مكتظاً كالإسفنجة. وجعلت أولع بالشعراء واحداً أثر واحد. وإذ كنت بطبيعتي حساساً سريع التأثر كان لا يزال الشاعر الأخير يبغض إلى كل من سبقه. وهكذا صيرت مع نفسي محزناً حافلاً بالأطلال القديمة حتى إذا آل بي الأمر إلى العجز عن الازدياد من المقتنيات الجديدة أصبح انا نفسي طللاً.

ولكن هذا الطلل كان عليه شيء حديث فتى - وذاك هو آمال قلبي الذي كان لا يزال طفلاً.

فهذا الأمل الذي كان لم بفسده طارئ ولم يبله والذي كان الحب قد أنمى غرسه وأنضر عوده قد أصابته الطعنة النجلاء من خيانة حبيبتي فأصبح مهيض الجناح دامي الجراح. وأصبح منه فؤادي كأنه

قطاة عزها شرك فباتت ... تغالبه وقد علق الجناح

إن المجتمع - ذلك الجم الأذى الكثير الضرر - ليشبه الأفعوان الهندي الذي يكن في أوراق النبات هو الشفاء من سمه والترياق من عضته - وكذلك المجتمع أبداً يجعل الدواء إلى جانب الداء الذي يحدثه.

مثال ذلك أن الرجل المنغمس في المجتمع العائش عيشاً منظماً مطرداً - المقسم أوقاته بين أعمال وواجبات أسرته وزيارة أقاربه وتعهد إخوانه والتمتع بحبيبته (كقسم من أقسام أعماله وبعض من كل) إذا أصيب بفقد حبيبته لم يكن في ذلك عليه خطر ولا يناله منه قاصمة الظهر ولا موهنة العظم. إذ أنه لن يلبث أن يجد في سائر واجباته وأعماله ملهاة ومسلاة ومندوحة عن إقضاء النهار بالفكر المقلق. والليل بالهم المؤرق. فيوشك أن يهون بلاؤه ويزول عناؤه. فمثل هذا يكون له من مجموع أعماله وجملة خواطره وأفكاره كالجيش الململم والخميس العرموم فإذا رمته يد القضاء بسهم مسدد فأصاب أحد هذا العسكر الذي تتكون من أفراده مجموع أعماله وأفكاره. فخر المصاب صريعاً أسرع إلى يد فراغه والقيام مقامه فلا يشعر بفقدانه.

ولكني كان يعوزني مثل هذا العزاء والسلوى إذ كنت منفرداً وحيداً. وكنت إذا لجأت إلى الطبيعة - أمي المحبوبة - أحاول التسلي بها والترفه بها ألفيتها قاعاً صفصفاً مفعمة