للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على الدوام العبد الخاضع المطيع.

والله وحده شهيد إني لم آل جهداً ولم أدخر وسعاً في سبيل الاستفاقة من هذه الغمرة الكاربة والاستسفاء من هذا الداء الأليم. ففي أول الأمر وقد قام بعقيدتي أن مجتمع الرجال هو بيئة الفسق وبؤرة الفساد ومواطن الغدر والخيانة وإن الرجال كلهم فجرة خونة فشأنهم شأن حبيبتي - اعتزمت اعتزالهم جميعاً والركون إلى الوحدة والانفراد ثم عاودت الاشتغال بالدرس والقراءة فأقبلت على كتب التاريخ ودواوين الشعر القديم ومباحث علم التشريح. وكان في الدور الرابع من الدار رجل ألماني عالم تحرير قد اعتزل الناس وآثر الوحدة. فما زالت به حتى وعدني أن يعلمني لغته. ثم أخذ في إنجاز وعده بجد ولكن ساءه مني عزوب عقلي وشرود ذهني. وكم من مرة جعل ينظر إلي حائراً دهشاً ضاماً يديه فوق كتابه وأنا غارق في غمار أحلامي لا أعي ما يقول بل لا أسمعه ولا أراه ولا أبصر فرط أسفه علي ورثائه لحالي! وأخيراً قلت له جعلت فداك أيها السيد الكريم. إلا أنه لا مراء في الحق. لا شك أن فائدة من محاولتك تعليمي ولا ثمرة. على انك وايم الله أكرم من رأيت وأفضل الناس طرا، عبثاً تحاول إصلاحي وإنه وأبيك لأمر تعجز عنه قوى السموات والأرض. فدعني وشأني وما قد كتب لي وجرى علي. وإني وإياك لعلى حد قول القائل:

جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفيالي

فقالا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدان

لا أدري أفهم الرجل مني الرجل هذا الكلام الملغز وهذه الرموز والإشارات ولكنه ضغط على يدي دون أن يفوه بكلمة - وبذلك أغلق باب الألمسانية إلى الأبد.

ثم رأيت أن العزلة بدلاً من إصلاح حالي قد زادتها فساداً فعدلت عن هذا المذهب. فمضيت إلى الريف وانهمكت في الصيد وأخذت في شتى ضروب من الألعاب الرياضية فكنت إذا قضيت النهار الطويل بالعدو والركض والضرب والطعن والكد والكدح ثم انقلبت إلى الدار بعد الغروب متعباً منهوكاً يتفضخ العرق من جبيني وتفوح مني رائحة البارود والاصطبل لا أكاد أتماسك ولا أقوى على حمل بدني فتهافت على فراشي وأغمضت أجفاني التمس النوم وأستدرج شبحه الشارد امتنع مني ولج في نفوره ومثل أمامي طيف تلك الحبيبة فصحت قائلاً أناجي ذلك الشبح المائل: أيها الخيال أيها الخيال. ألا تزال تطاردني