للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أداة الشاعر إنما تصلح أحسن ما تصلح له وهي في حالتها من البداوة والفطرة. إن الأمم كالأفراد تحس ثم تفكر. إنها تبتدئ بالصور المعينة ومنها إلى الحدود العامة. ولذلك نرى الأمة الراقية المستنيرة ترى كلماتها فلسفية علمية بينما الأمة البعيدة من التمدين نرى كلماتها شعرية.

وأن هذا التغيير في لغات الناس بعضه سبب وبعضه أثر لتغيير يقابله في طبيعة الأعمال الذهنية، ذلك التغيير الذي يستفيد منه العلم ويخسر الشعر. إن التعميم ضروري لتقدم العلوم ولكنه لازم لاغنى عنه لمبتكرات الخيال. وبقدر ما يزداد علم الناس وتفكيرهم يقل اهتمامهم بالنظر إلى الجزئيات ويعظم بالنسبة إلى الكليات. وبذلك يخرجون إلينا نظريات حسنة وأشعاراً رديئة. ويقدمون إلينا معاني مهمة بدل صور معينة وصفات شخصية للإنسان بدل الإنسان ذاته. قد يكونون أقدر على تحليل الطبائع البشرية من آبائهم وأجدادهم، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، لأن عمله يقتصر على التصوير ولا شأن له بالتقسيم والتحليل. قد يكون الشاعر من أنصار المبدأ الأخلاقي كشافتسبوري، وقد يكون ممن يرجعون أعمال الإنسان كلها إلى حب المصلحة كما يقول بذلك هلفشياس، وقد لا يكون فكر في شيء من هذا اصلاً. وعلى العموم فإن رأيه في هذه الموضوعات كلها لن يكون له تأثير في شعره الحقيقي أكثر من تأثير المعلومات التي يحرزها المصور عن الغدد الدمعية أو عن الدورة الدموية في تصويره دموع نيوب أو تورد أورورا. ولو أن شاكسبير كتب كتاباً في الدوافع النفسية للإنسان لما كان ولا ريب كتاباً قيماً جليلاً، بل لما كان فيه من القوة والإثبات نصف ما في كتاب أساطير النحل. ولكن هل يستطيع مؤلفه ماندفيل أن يخلق أياجو؟ نعم إنه أحسن تحليل الطباع وردها إلى عناصرها ولكن هل يستطيع أن يحسن ضم تل العناصر بعضها إلى بعض بطريقة يخلق بها شخصاً حياً حقيقياً؟. .؟

ربما لم يكن هناك إنسان يستطيع أن يكون شاعراً، أو على الأقل يستمتع بالشعر ويطرب به. إن لم يكن في ذهنه شيء من النقص - إن صح أن نسمي نقصاً ما يورثنا أعظم اللذة والطرب. ولا نعني بالشعر كل ما هو مقصد، بل ولا كل قصيد حسن وبذلك يخرج من اعتبارنا كثير من القصائد التي قد تكون لأسباب أخرى جديرة بلإعجاب والثناء، ولكننا نعني بالشعر هنا تلك القدرة الغنية على استعمال الكلمات استعمالاً يجسمها في الذهن، أو