للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب ونتناشد الأشعار ونخوض في ضروب من الحديث لا علينا إذا نحن أوردنا شيئاً منها في هذه الرسالة، فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له (لما مررت بالقيروان - وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة فقلت أن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئت إلى هنا قضيت عجباً من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم) ومن ثم كنا نراه يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم (إن علمي علم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم إن صححت) ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب وقال إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كنزه الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن - أما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والروح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون. الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصر ينفي الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، واطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة، فقال أبو علي: (نعم وفي الحق ما تقول بيد أن شعراء المشرق فضلاً أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكاً وأوضح منهجاً، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلاً أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج، تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وافتنوا في مناحيه أيما افتتان، وغاصوا على المعاني