للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تجافي البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على الأقوام ثوب نعيم

والحقيقة أن كل متا يملأ الماضي من الأشياء والحوادث يبدو بهيجا في ناظر الوهم يفضل ما يكتنفه من ضباب القدم فيستر شينه. ويبدي زينه. فيا رعى الله الزمان دافن السيئات. وناشر الحسنات. ونافي الأتراح. وآسي الجراح. ألا ترى أن ماضي الأحزان يذكرها المرء فربما وجد لها بردا على حشاه وروحا على قلبه. فنحن إذا ذكرنا أيام الطفولة والحداثة تمثلت في ضمائرنا وكلها لهو ولعب. وقصف وطرب. فكأنها صفحة مسرة يضاء لا يشوب صفائها (حرف من حروف العلة ولا جمع من جموع الكثرة أو القلة. ولا قاعدة ملعونة من قواعد الإعراب ولا عروض قافية بأوتاد وأسباب.) بل كل ما نذكره هو النعيم غير المشوب. وراحة الضمائر وصفاء القلوب. وألذ ما نذكره ساعات الغرام. وعبثها بالنهي والأحلام. فيا عجب كيف لا يثوب إلى أذهاننا من ذلك العهد الغرامي سوى أرباحه ومغانمه. وقد سقط عن ذاكرتنا كل خسائره ومغارمه. فنسينا أو تناسينا الليلة الساهرة. والدمعة الهامرة. واللوعة الكاوية. والزفرة الحامية. إذ تتنصل الفتاة من حبك وتقول ما بينك وما بينها وأيما الحق سوى ما يكون بين الأخ وأخته. كأنك يا خليلي في حاجة إلى المزيد من الأخوة

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان

دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... ما لا يصنع الأخوان

أجل إن الجانب النير والوجه المشرق هو الذي نراه حينما نستعرض صورة الماضي لا الجانب الأسود ولا الوجه المظلم. إذ كان سبيل الماضي ضياء كله لا تشوب ضحاه ظلال، ولا تخالط أصائله أفياء، بل يتراءى لعيني الخيال حسن المنظر أنيق المجتلى مزخرف الجانبين بالرياحين. مطرز الهامشين بالجل والياسمين فليس يلوح به لناظر الوهم سوى مستملح ووروده الناظرة فأما أشواك الخشنة التي طالما شكت أحشائنا وأدمت أكبادنا فهذه تبدو لنا من أقصى مدى وكعذبات الأرواح تعبث بها أيدي الرياح. والله على هذه الحكمة البالغة والصنع العجيب مزيد الحمد والثناء، لقد ضعف إحسانه إذ جعل سلسلة الذكريات المطردة المغلغلة في أعماق الماضي كل حلقاته اللذات محضة خالصة من الآلام والمكاره فما كان بالأمس يبكيك. فهو اليوم يضحكك ويلهيك. وتراه اليوم مشجاة ومأساة. ستراه غدا