للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ذلك شأن الناس في كل عصر ودأبهم في كل جيل. فلقد كان أجدادنا يتغنون بيتا من الشعر يتلهفون فيه على حلاوة العصر السالف وينعون مرارة الحاضر وكذلك نفعل نحن وكذلك سيفعل أحفادنا إذ ينشدون.

ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في زمن كجلد الأجرب

فوا حزنا! ألم تزل هذه صيحة الإنسانية المتوجعة منذ آدم. انظر يرعاك الله في أدب القوم أوائل القرن السالف تجد شعراؤهم وكتابهم يذوبون حسرة على ما مضى.

لهفة على ذاك الزمان وهل ... يثني زمانا ماضيا لهف

كذلك كان كتاب القرون السالفة لذلك، والعهد الذهبي والعهد الأليصاباتي والعصور الوسطى في كل شعب وأمة وكذلك كان قبلهم فصحاء العصور المجهولة المظلمة والعصور الجاهلية الخرافية. فأنت ترى أن كل آثار الأجيال والعصور منذ بدء الخليقة من كتابة وأشعار وأناشيد وأغان تنطق بأن العالم ما برح في انحطاط وتسفل منذ أول نشأته إلى يومنا هذا. ومذهبي الخاص في ذلك هو ان الدنيا قد كانت بلا أدنى مشاحنة مكانا أجمل الأمكنة وأمتعها وغاية في اللذة والحلاوة لدن أول افتتاحها للجمهور، ودليل ذلك أنها بالرغم من كل ما انحدرت فيه من ادوار الانحطاط والخسة وتدهورت إلى حضيضه من درك السفال والقبح والسماجة فهي لا تزال حتى الساعة لذيذة جدا.

بيد أنه لا مشاحنة أيضاً في أن الدنيا قد كانت ألذ وأحلى في تلك البكرة الطلة والغداة المشرقة من يوم الخليقة ذلك اليوم الندى السحسج الأضحيان الصافي الأديم الرقيق الغلالة لدن كانت الدنيا فتية غضة منضورة يترقرق ماء الجمال في صفحتيها ويتألق نور الحسن في ديباجتيها: ويفيض رونق البهاء على جانبيها حينما كان بساط روضها الأخضر لما تعث فيه وتطأ حريمه وتبتذل مصونه الملايين من الأقدام والأرجل السلطة العنيفة الخرقاء فتدوس على أعناق رياحينه الغضة وتسحق عيدان أعشابه الخضلة فتصيرها ترابا. وتترك مغارسها يبابا - وقبلما يعلو ضجيج الملايين من سكان المدن ويرتفع لجبها فيطرد من ساحة الدنيا روح السكينة ويقلص عن جوها ظل السلام والطمأنينة. فما كان أجمل الحياة وأحسن العيش لأهل هذا الزمان الفتي. والأوان الشهي. والعيش العبقري. أخدان طفولة الدنيا وخلان حداثتها وجناة الحلو الجني من ثمر صباها الغض وشبابها الناظر - أجل ما