للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كان أملح الحياة لأولئك السذج الأبرياء آباء النوع البشري ذوي القدم السريعة الركاضة. والبردة الواسعة الفضفاضة. المسيرين لله جنبا لجنب تحت سرادق السماء الهائل. طوبى لهم في خيام تلثم ذراها أشعة السراج الوهاج بين أسراب ظباء الباغمة. وأبابيل الطير الناغمة. وأفواج الغيد الناعمة. وكانوا يتناولون حاجاتهم من كف الطبيعة الحدبة الشفيقة الدائمة. وكانوا يقضون الوقت حديثا وحواراز وتأملا وإدكارا. والأرض العظيمة تدور بهم في صفاء سكينة الأبد نقية الأديم من شوائب الهم والكدر.

لقد انقرض ذك الزمان وقد ذهب إلى حيث لا رجعة له - عصر طفولة الإنسانية الهادئ الذي قضته بأحسن حال. وأنعم بال في أسحق أغوار الغابات وأعمق فجاحها الخفية وشعابها الغامضة على ضفاف النهر صرارة ومسايل هدارة

وأمواه تصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني

قد انقرضت تلك الأيام. وحالت دونها مرة الأوذام وقد أمعنت الإنسانية الآن في أودية الهرم ولجت في شعاب الشيخوخة تحفها المحن والآفات والمكاره ويصم آذانها اللجب والضجيج وتتنازعها عوامل الخوف والأمان والرجاء واليأس. لقد انقضى عهد السكينة والسلام. ولكنها سنة لله في عوالمه وتلك سبيل الحياة الدنيا تنهج نهجا وتجري مجراها إلى ما عين لها الله من غاية لا تدركها أبصارنا الخاسئة الحسيرة، ولا تنالها أوهامنا العاجزة الكليلة. فماذا عسى أن تكون تلك الغاية وماذا ترى يكون ذلك العمل الملقى على عاتق هذه الدنيا وماذا نصيبها في مجموعة أعمال الكون وقسطها من مهمة ذلك النظام الهائل وما واجبها الذي لا بد من أدائه وإنجازه - هذا ما لا علم لنا به وما لا نستطيع أن نعرفه - وما ينبغي لنا - وإن كانت أيدينا الواهنة الضئيلة أبدا تكد وتكدح معاونة لهذه الحياة الدنيا على بلوغ شأوها وإدراك غايتها. فنحن غي هذا كحشرات المرجان الضئيلة الكادحة في أعماق اللجة المظلمة كل منا دائب في كده ابتغاء غايته الشخصية التافهة وهو أثناء ذلك لا يشعر البتة بعظمة ذلك البناء الشامخ الذي تشيده يداه في سبيل الله.

إلا ابتدعنا ن الماضي وذكرياته واطرد عن ساحة القلب بها من حسرة عليه. ونزعة إليه. وانف عن كنف الضمير كل ما يعلق به من حنين إلى جمال عهده المستطاب. وأنين على حلاوة ساعاته العذاب. وانظر إلى المستقبل فإنه همنا وغرضنا وفيه عملنا وواجبنا. فلا