للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العصير النباتي لم يغير من أجل ذلك مذهبه الأول وإذا استرسل العود في النماء فلا بد أن يستقيم اعوجاج ما طال منه وكذلك أميال الإنسان التي تخلقها العادة والتي هي أجنبية من فطرته لا تتغير أو تتبدل الأحوال فتنبذ العادة وتعود الطبيعة إلى مجراها الأول. وليست التربية إلا العادة وأن في الناس من ينسى ويترك وآفة العلم الترك فيخسر ما أفاد من التربية وفيهم كذلك المعتصم بحبالها المستمسك بأسبابها فما علّة هذا الاختلاف؟ لئن كنا نقصر لفظ الطبيعة على ما توافق مع الطبيعة من العادات فما أحرانا أن ننزع عن هذا الجهل ونقصر عن هذا السخف؟

الصواب أن الطفل يولد شديد الحس تتناول مشاعره كل شيء فإذا شب وتنبه لما يحصل في نفسه من الإحساسات رأيته يميل إلى ما أثارها من الأشياء أو ينفر أولاً من حيث هي طيبة لذيذة أو ثقيلة بغيضة ثم من حيث هي ملائمة له أو غير مشاكلة ثم من حيث ما يتبين فيها من الارتباط بمعاني السعادة أو الكمال. وذلك إذا بلغ كمال العقل. وهذا الخُلق جدير أن يشتد ويقوي على قدرٍ ما لصاحبه من صفاء النفس ولطافة الحس ولكن العادة قيد فهو يتبدل تبعاً لأفكارنا وهذا الخُلقُ - قبل أن يتحول - هو ما أدعوه الطبيعة.

وإذ قد نفضنا غبار اللبس عن لفظ الطبيعة وحسرنا عنه ظلال الإبهام فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول ينبغي أن نرد كل شيء إلى هذا الخلق وقد كان هذا يكون ممكناً لو كانت أنواع التربية الثلاثة التي ذكرناها فيما أسلفنا مختلفة وليست متعارضة ولكن ما العمل وهي متنادة متعارضة وما الحيلة ونحن بدل أن نربي المرء لنفسه نربيه لسواه؟ ألا إن الاتفاق محال لأنه لا محالة من مكافحة الطبيعة ومقاومة أوضاع البشر فأما أن نربي الطفل ليصير رجلاً وأما أن نربيه ليصير حضرياً لأن الجمع بين الغايتين من وراء الطاقة.

والرجل الطبيعي كامل في ذاته غير ناقص فهو كالوحدة الحسابية أو العدد الصحيح نسبته إلى نفسه أو رفاقه فأما الحضري فما أشبه بكسر الوحدة الذي هو رهين بالمقام فإن قيمته ليست في نسبته إلى نفسه ولكن في نسبته إلى الكل - وهو المجتمع الإنساني.

ولقد أعملت في المجتمعات الروية وقلبتها ظهراً لبطن حتى عرفت مظهرها ومخبرها فرأيت خيرها عند الناس أقدرها على مسخ الإنسان وسلخ وحدة وجوده منه لتفنى في الوحدة العامة بحيث يدرك كل أحد أنه جزء من الكُل وليس واحداً صحيحاً مستقلاً وأنه لا