للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم وطرحت عليها نقائضها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها، فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة وراءها خيوط من الأعنة، حتى أصبح تاريخ الأرض عربياً، وصار بعد الذلة والمسكنة أبياً، واستوسق لهم من الأمر مالم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب حتى كأنما نويت لهم جوانب الأرض وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها. لا غزاة يفتحونها. فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره، ولا يكاد يشير إلى (قطر) من أقطارها إلا أراك كيف تدور (الدائرة).

وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه فإنه أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءً كضوء الصواعق وحركة كحركة الزلازل وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء نفضت على الأرض جنوداً عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها. لأنه لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها. . . ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض وكان أهل العرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. . . وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها لأن القرآن هو صفَّى تلك الطباع وصقل جوانب الروح العربية حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها وصرَّفها في وجوه معانيه ما بلغ من القوم رأياً ولا نية ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم ما يذهب به ويمسح أثره