للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من القلوب ولا يدع له مساغاً إلى ما وراء السمع لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى كلها فصيح وكلها بيان. وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن عاداتها ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كلها ليست من لغة أحدهما كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من باب الكرم يلقّاها جواد وبخيل.

وأنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى وأطلت تقليب الرأي فيه فإنك واجد منه سبيلاً إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم فإنه سفه أحلام العرب وخلع آلهتهم وقمع طغيانهم واشتد عليهم بالعنف محضاً بعد اللين ممزوجاً حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته ولم يهدأ عنهم بل ردد ذلك وكرره وعمهم به وأرسله في كل وجه وقرع أنوفهم وهاج منهم حمية الجاهلية وجاراهم في مضمار المخاطرة وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواء في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال. ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير.

بلى ولقد يخيل إلى أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرؤوس فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض ولم يتخذوا السيف ناباً إلا ليأكلهم ولا الحرب ضرساً إلا لتمضغهم وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية. ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الجبل الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين إن كان منها فهو لعمرك استخذاء. وإن كان من الجبل