للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الهموم. فإن الطبيعة ما برحت تجمع بين مضاحكة الجذلان ومؤاساة المحزون وهي لا كالبشر، يجد فيها المسرور ألهيته والمغموم سلوته وتبدو لكل ناظر كما يحب أن يجدها. فلقد يراها الشجي كاسفة آسفة على حين يراها الخلي مقهقهة ضاحكة، وقد تبرز لهذا في صدار الحداد وهي لغيره بارزة في حلة العرس. وما بها من ختل أو نفاق وإنما هي مرآة النفوس وصدى خواطر الأفكار.

ولقد ألفت أن أتردد إليها بين حين وحين. فأجوس بين أنحائها وأتظلل بأفيائها وأمتع النظر بين أرضها وسمائها. وخضرتها ومائها. فخرجت إليها أصيل يوم من أيام هذا الربيع القائظ. فإذا المركبات كما عهدتها تترى بكل نبيل أو جميل. من مشمخر شامس أو مزور شاوس ينظرون إلى السابلة نظرة قادم من المريخ أو عطارد كأنما أولئك أبناء نوع غريب من البشر. أو كأنما الناس قد انقسموا إلى فصيلتين. فصيلة تدور على الدواليب وفصيلة تدوس على الأقدام.

فأعرضت عنهم. فإن هؤلاء الحمقى إنما يتيهون علي بعيني لا بأعينهم. ويتأنقون لأراهم لا ليروا أنفسهم. فمالي لا أغمض طرفي عنهم. وأدير بصري عن جيادهم وبراذينهم. لئلا يظنوا استحساني لها أو إعجابي بها. استحساناً لهم أو إعجاباً بهم؟؟

قلت صعروا خدودهم أيها الأغنياء فما ذهبكم بجاعلكم أكبر قدراً عندي من تراب المناجم. وأني لأحسد بقعة الأرض على ما بها من تبر كما أحسدكم على ما لديكم من نضار. كلاكما واحد. والتراب قد يخصب فيثمر وأنتم تربة مجدبة لا تثمرون. إن أنتم إلا صناديق من اللحم والعظام.

ونظرت إلى بنات حواء المتباهيات بميراثهن منها. وما أجدر الخجل بمكان الصعر من خدود أكثرهن. فقلت كفاك يا عين تخدعيننا بجمال وراءه من الدنس ما يشين طهارة الملائكة ويعيب جمال الحور.

ثم نظرت إلى النيل فإذا مراكب طافية. فوق لجة ضافية. تحت سماء صافية. بين طبيعة متثائبة غافية. فنسيت الناس وذكرت قول البهاء زهير:

حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات

هات زدني من الحديث عن النيل ... ودعني من دجلة والفرات