للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الطبيعة التي تصور أحلام النفس وخيالاتها. وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصور الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس. وإحساس ينتهي إلى الذوق. وذوق يفيض الإحساس والإلهام على الكتابة جميعاً فيترك فيها حياة كحياة الجمال لا تداخل الروح حتى تستبد بها ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فنكون له كأنها فكرة في ذاته.

وكل علوم البلاغة إنما تدور على شرح أمثلة بليغة وغير بليغة فما من كاتب يحاول أن يستفيد تصوره من هذه العلوم على أن ينزلها في ذلك منزلة الأصول والضوابط إلا انتهى إلى ملكة علمية تتصل منه بعقل جامد كأنه غلاف لفظي نسجته القواعد والأمثال. فإلى أن يعقد الموت لسانه لا تكون قيمة عمره قد أربت من البلاغة على ثمن كتاب من كتب علوم البلاغة. .! ولا غرفان من ضلال العقل أن يعمل المرء لمقدمات متسلسلة ينتج بعضها بعضاً وليس لمجموعها نتيجة.

وحسب مثل هذا عقاباً (بليغاً) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعاً فيها وهو موقن باليأس منها وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه حتى أن نفس الأثيم الذي انسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه.

البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلّطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوي الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة. وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل.

فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصور المريض، وشرد الخيال فذهب كخيال المجانين وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الانحلال بآفات الاجتماع وأمراضه فيكون طابعها في الاصطلاح مرضاً من نفسها. ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة.

وما البليغ إلا ذلك الذي يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجهلها - في غير