للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الذاكرة من هذا الإمعان والاستقصاء. أم هي بين الروحين تصافح المعرفة واللقاء.

فلما رأتهما مريم على هذه الحال، تضرمت في نفسها شعلة الصبا، وسرت في عروقها حميا الهوى، فقالت ليت لي عاشقاً!!

قلت أو تعشقين؟؟

قالت ولم لا؟؟ بل إني لعاشقة الساعة. وكأنني أجد نفسي بين يدي فتى أجلس منه مجلس هذه الفتاة من ذلك الفتى، وإننا نتلاحظ كما يتلاحظان، ونتعانق كما يتعانقان، ونقطف من زهر المنى في روض الهوى مثلما يقطفان قلت فاذهبي إلى عين الشمس. . . فهنالك تجدين عياناً ما تتوهمين خيالاً. واستقبلي عصاري اليوم في وديانها حبيبك المأمول ونعيمك المعسول.

وكان الأعور قد جاء بالفتى الأنسى وأرصده من منعطفات عين شمس بحيث أمرته. فوقف يتشاغل بالصفير ويغازل الغاديات والرائحات أما هذا الفتى فهو ممن طمست على بصائرهم وأضللت ألبابهم، وطوحت بهم في الفساد إلى حيث لا يبلغ صوت الضمير أو نداء الوجدان، فأصبح كسول النفس، بارد القلب، لا يخف إلى غير المخازي، ولا يرتاح إلى حديث في غير الشراب والنساء، ولا يرى إلا أن العالم حان أو ماخور.

وذهبت مريم إلى أمها فاستأذنتها في الخروج أصيل ذلك اليوم، وكانت أمها تخاف عليها مغبة ما بها من الكمد وتشفق أن تتلاشى نفسها غماً من غدر خطيبها، وانصرافه عنها إلى صاحبتها، فكرهت أن تجمع عليها بين ضيق الصدر وضيق الأسر، فأذنت لها ونادت بالخصي جوهر ليصحبها إلى حيث تشاء.

ولم يبق الأرَيْم من النهار فنوردت الشمس وتزينت مريم بأحسن زينتها وبرزت تتهادى في الطريق كأنها طاقة الزهر تترك بعدها عبقاً في حينما صافحت الهواء.

وطفقت كلما نقلت قد ما سمعت كلمة إطراء وغزل، وكلما أرسلت نظرة تعثرت في نظرات المقل، وهي ترى ذلك وتسمعه ولا تعيره نظراً أو سمعاً. وإنها لكذلك حائرة النظر، مشردة النفس بين الغرابة والخجل. إذ رمقت الفتى على قرب. فرأت قواماً قويماً، ومشية رشيقة ووجهاً تشرق فيه بشاشة الصبا، وفما تبتسم فيه الملاحة، وعينين ألاّقتين كأنما تضاحكان الضياء. فأحست كأن طائراً نض جناحيه بين جوانحها، ومشت قبالته وهي